(✍️: بوابة السودان)
المقدمة:
شهد السودان تحولات عميقة منذ اندلاع الحرب الداخلية في 15 أبريل 2023، وقد انعكست هذه التحولات في تشكيل ميليشيات مسلحة مناطقية وقبلية وعرقية، وتزايد نفوذ كتائب الإسلاميين والجماعات الدينية المتشددة. وما بدأ كحرب وصفها قائد الجيش “عبد الفتاح البرهان” بعد يومين من اندلاعها بأنها “عبثية”، سرعان ما تحولت إلى صراع على السلطة والسيطرة على مفاصل الدولة. ومنذ ذلك الحين، تغير خطاب “البرهان” عدة مرات، إلى أن انتهى بتبني خطاب الإسلاميين، الذين أشارت الشواهد إلى تورطهم في إشعال الحرب. وفيما يرى البعض أن الجيش يسعى لفرض سيطرته بيد واحدة، تظهر حقائق ميدانية تعكس وضعاً معقداً يهدد بنسف التماسك الوطني وإغراق البلاد في دوامة من العنف والفوضى.
واقع عسكرة الحياة المدنية ونمو الميليشيات:
خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام البشير بثورة شعبية، بدا أن السودان في طريقه إلى التحول نحو حكم مدني، وبدأت خطوات جادة تهدف إلى تصفية وجود الميليشيات المسلحة ودمجها داخل جيش وطني واحد بعد إجراء سلام شامل ومصالحة وطنية لا تستثني أحداً. إلا أن انقلاب البرهان في 25 أكتوبر 2021 أجهض تلك الآمال وأعاد تأسيس الميليشيات بصورة أكثر من قبل، وبدأت هذه القوات شبه العسكرية بالتوسع مستفيدةً من الدعم المباشر وغير المباشر من الجيش.
وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن عدد الميليشيات القبلية حالياً يصل إلى حوالي 40 ميليشيا، منتشرة في مختلف ولايات السودان، هذا بخلاف الميليشيات والكتائب المرتبطة بالحركة الإسلامية وكتائب الظل، والتي تعد الأكثر تأثيراً وخطورة.
يؤكد المراقبون أن عسكرة الحياة المدنية وإنشاء ميليشيات مسلحة أسهما في إعادة السودان إلى عهود ما قبل الدولة الحديثة، وأدّيا إلى تفكيك النسيج الاجتماعي وتقسيم المواطنين على أسس قبلية وعقائدية. ويرى هؤلاء أن هذا النهج يشكل تهديداً وجودياً لاستقرار البلاد ويعزز الانقسامات المجتمعية التي يمكن أن تتحول إلى نزاعات طويلة الأمد.
نموذج لخطر الميليشيات في تهديد الأمن والاستقرار:
في 19 سبتمبر من العام الماضي، اشتبكت قوة من الجيش مع ميليشيا تُعرف بـ”قوات تحالف شرق السودان” في البحر الأحمر، وهي ميليشيا أسستها استخبارات الجيش في مدينة بورتسودان، وأُوكلت قيادتها لشيبة ضرار، وهو شخص غير متعلم له سوابق إجرامية جنائية في المدينة، وتضم الميليشيا التابعة له قلة من أبناء قبيلته (الهدندوة). حدث الاشتباك عندما أقامت الميليشيا نقاط تفتيش في منطقة “ديم مدينة” لإبتزاز المواطنين وسائقي المركبات والشاحنات التجارية، ما أدى إلى حدوث اشتباك عنيف استخدمت فيه الأسلحة الثقيلة، ما أدى إلى ترويع المواطنين.
وفي الأسبوع الماضي، وتحديداً بتاريخ 4 نوفمبر، أصدرت لجنة أمن محلية النهود بولاية غرب كردفان قراراً بفرض حظر التجوال من السادسة مساءً وحتى السادسة صباحاً، مع إغلاق الأسواق والمحال التجارية، على خلفية اشتباكات دامية بين الشرطة وقوات الاحتياط، وهي ميليشيات قبلية معظم أفرادها من قبيلة (الحمر). وتدعم هذه الميليشيا الجيش السوداني في حربه ضد قوات الدعم السريع. وأسفرت الاشتباكات عن مقتل ضابط شرطة واثنين من قادة الميليشيا. وحسب رواية قائد مليشيا قوات الاحتياط، “حمد الصافي”، بدأت الأزمة عندما حاول أحد أفراد الميليشيا الاستيلاء على سيارة تابعة للشرطة، تلبيةً لأوامر من لجنة أمن الولاية القائلة باستخدام المركبات الحكومية في العمليات العسكرية، لكن الشرطة رفضت، مما أشعل الأزمة. وتطور الخلاف إلى تبادل لإطلاق النار، أدى إلى سقوط قتلى وجرحى من الجانبين.
تكشف الحادثتان، وغيرهما الكثير، عن حجم الاستقلالية التي باتت تتمتع بها الميليشيات القبلية والمناطقية، والتي أصبحت تفرض سلطتها بطرق مستقلة عن مؤسسات الدولة. وتُظهر كذلك العجز الواضح في سيطرة الأجهزة الأمنية على الميليشيات المسلحة غير النظامية، ما أدى إلى خلل وتفكك داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية النظامية.
خطورة سيطرة الميليشيات الإسلامية:
إلى جانب الميليشيات القبلية، برزت الميليشيات والكتائب الإسلامية، المعروفة بكتائب الظل، وأشهرها ” كتيبة البراء بن مالك”، كقوى مؤثرة تتجاوز قدرتها العسكرية قدرة الجيش الرسمي. هذه الكتائب المسلحة بأحدث الأسلحة من طائرات الدرون إلى القذائف الموجهة وأجهزة الاتصال المتقدمة، تمثل خطراً داهماً على استقرار البلاد، خاصةً وأنها تعمل بسلطة مستقلة وتستطيع التأثير على قرارات الجيش بفضل نفوذها داخل المؤسسة العسكرية وجهاز المخابرات.
ورغم أن عدد هذه الميليشيات والكتائب الاسلامية غير معروف، إلا أن مراقبين يرون أنها تتمتع بدور محوري في المعارك، وهو ما يجعلها تمثل تحدياً حقيقياً للجيش. ومع تزايد نفوذ هذه الجماعات، بات المواطنون يواجهون خطراً مباشراً على أمنهم، في حين يظهر الجيش ضعيفاً أمام تحديات متزايدة من قبل حلفائه من الإسلاميين والجماعات الدينية والقبلية الأخرى.
أبعاد استراتيجية البرهان:
يشير بعض المراقبين إلى أن البرهان يعتمد على استراتيجية خطيرة تتمثل في موازنة ميليشيا بأخرى، من أجل الحفاظ على نفوذه وسط صراعات داخلية متشابكة. إذ يسعى إلى إبقاء جميع الأطراف تحت سيطرته ليضمن لنفسه دور الحكم والفصل بينها، إلا أن هذه الاستراتيجية تضعف الدولة وتفتح الباب أمام الفوضى. فبدلاً من بناء جيش وطني قوي يوحد البلاد، يجد البرهان نفسه محاطاً بميليشيات متناحرة، ويدعم تشكيلاتها المختلفة لتحقيق توازن قلق، لكنه غير مستدام وسينقلب ضده لا محالة في المستقبل القريب.
ويصف هؤلاء المراقبون هذه الاستراتيجية بالخطرة، وأنها تضع أمن البلاد أمام تحديات غير مسبوقة، حيث تسود الفوضى والعصبيات والولاءات القبلية والدينية على حساب قوانين وسيادة الدولة الوطنية.
الخاتمة:
إن تأسيس الجيش ورعايته لميليشيات قبلية وعرقية ومناطقية، وتحالفه مع كتائب عقائدية ودينية ومجموعات عنصرية متطرفة، وعسكرة الحياة المدنية وتسليح المدنيين والزج بهم في الحرب، يشكل تهديداً حقيقياً للأمن والاستقرار في السودان. هذا النهج لا يعرض البلاد لخطر التمزق فقط، بل يزيد من احتمالات الانقسامات المجتمعية الحادة، مما يضع السودان على أعتاب مرحلة حرجة تتطلب وقفة ومراجعة شاملة للحفاظ على وحدة الدولة واستقرارها.
هذا التحول الخطير للجيش من جيش وطني جامع لكل المكونات السودانية إلى شبكة معقدة من الميليشيات والأذرع المسلحة القبلية والعقائدية، ينذر بعواقب وخيمة تهدد استقرار البلاد وأمن مواطنيها وتمزيق نسيجها الاجتماعي وتحولها من دولة وطنية موحدة إلى دولة ميليشيات متفرقة فاشلة بلا سيادة.