علي أحمد
كتّبَ المهندس عمر الدقير مقالاً رفيعاً يرّدُ فيه على “عبد العزيز بركة ساكن”، وكان قطعة أدبيّة بديعة شكلاً ومتناً، لا يعيبه سوى أنّه مُوجهٌ للرّد على “بركة ساكن”، كما بدا واضحاً أن الدقير، كتبه بخلفيته الأدبية أكثر، لا السياسية.
ولابُدّ هنا من القول، إنّ من كتبوا وأوسعوا “بركة” ردوداً، وأفحموه و (مرمطوه) من قبل، لم يفعلوا ذلك بسبب خلاف أو جدل نقدي حول ثقافته أو روائيته من عدمهما، فمن ردّوا عليه كانوا جميعهم – وأنا منهم – يعرفونه جيداً، يعرفون خواءه الفكري والنفسي، واحتياله ومعدنه ومخازيه الكثيرة، اجتماعياً وسياسياً، وعلاقاته الوطيدة مع الكيزان، وما منعهم من فضحه من قبل فقط لأنهم كانوا ينظرون إليه كمتسلقٍ انتهازي رخيص بلا قضية أو مبدأ ، يقيم علاقاته مع الكيزان لمكاسب شخصية حتى يصل إلى ما يريد، ولأنه أيضاً كان يختبيء – سياسياً- خلف صمته.
أما وقد أراد الآن دفع الثمّن لأسياده بالهجوم على القوى الديمقراطية والإساءة إليها، والتجنّي والكذب وعكس الحقائق في وقائع وأحداث لا تزال طازجة، مثل: من الذي بدأ الحرب؟، هنا وجب التصدّي له وزجره وفضحه ورميِّه بحجارةٍ من سجيل، لا بالكتابة الإبداعية وإيراد أمثلة “ابن خلدون” فقط، بل بفضح مثاله هو شخصياً مع صانعه الكوز الأكثر خِسّة “حسين خوجلي”، فالخيانة وقِلة الأدب ليستا وجهتّي نظر حتى تناقشا بالمُحسِنات البلاغيّة والأدب، وقد تصدينا له أيضاً حتى لا يتسخ أنقياء لنا مثل “الدقير” بالسقوط في وحل هذا المستنقع وعفونته وقذارته وأدرانه!
ربما هذه مناسبة، أُناشِد فيها كل من يهمه أمر الديمقراطية ومستقبلها في بلادنا، وكل من يُفكِّر في الكتابة والرّد على هذا الأديب الدّعي؛ أن لا يضيعوا وقتهم الثمين في مجادلته، فلدينا ما يُخرسه مرة وإلى الأبد، وهذ الأرزقي الوصولي لا تُحركه الثقافة ولا تجذبه المُثاقفة، بل الاستحقار والدناءة والمال، وهو ربما الوحيد من المؤلفة قلوبهم غير “البدريين” الذي غمر النور اسمه في عصر الظلام الكيزاني البهيم، ليس لعبقريته بل لأنهم كانوا وقتها يبحثون عن طُلقاء و”مطاليق” من هامش البلاد – ولا يزالون (مناوي وأردول كمثال) – لذر الرماد في العيون حتى لا ترى حملة إبادتهم تجاه كل كائن وحي ينبض في تلك الرقاع المسكينة، وقد التقطه “حسين خوجلي” وشمله برعايته ونصّبه أديباً وروائياً في المنتديات إيّاها، وهو إذ ينتفض الآن ضد القوى الديمقراطية، لا يُحرّكه موقف فلا موقف له من أساسه، وإنّما يُسدِّد جزءاً من حقوقِ تلك الرعاية، ولك أن تتخيل عزيزي القاريء حال من عاش وترعرع ونال حظه ورعايته في كنف الجُثة “حسين خوجلي”، الذي تشبه رعايته لأي أحد كرعاية جاك السفاح لطفلٍ يتيم، فماذا يُرجى من “بركة” وأمثاله سوى العار والشنار، ولعب الأدوار القذرة لصالح؛ حسين وقومه، وهذه المرّة كان دوره رفع الضغط عن صِنوه “أردول” بعد فضيحة تسجيلاته المُخزية، وهي بالمناسبة معلومة مؤكدة لا رأي يخصني أو تحليل، ومن يعرف بركة جيداً لا يحتاج لتأكيدي هذا، فالخزي يليق به.
أضحكني “بركة” وصرعني ضحكاً في ردِّه على الدقير، إذ جاء ممتلئاً بالأخطاء والخطايا، تاريخاً وسرداً ولغة وإملاء – ويا للهول- وقد بدأ رده بجملة من الأمثلة والاستشهادات الموغِلة في العامية الشفاهية، من شاكلة: القصة المكرورة السخيفة المنسوبة لنابليون مع أحد الخونة، والتي ثبت أنها قصة منحولة لا أساس لها من الصحة، وهي عموماً قصة ركيكة لا تحتاج لقراءة أو تعمُّق ولا تُعبِّر عن ثقافة، وأجزم لو أنه قد جلس في منزله بجوار ترعة “خشم القربة” لسمعها برواية أكثر عمقاً من التي أوردها، وهو حين استطرد في استشهاداته (النحيفة) التي لا تُسمّن من جوع ولا تعظ من خيانة، إنما كان يقصد الرد على اتهامنا له بفقر ثقافته وسطحية تفكيره، فطفق يستعرض وهو يظن أنه يُحسن صنعاً أو يقنع طفلاً بقدراته الثقافية، فزاد طينه بللاً، وكانت جميع استشهاداته ضعيفة لا تليق بمن يقدم نفسه للناس كأديبٍ وروائي، إذ كنتُ أتوقع منه أن يستشهد لنا في هذا المقام – على الأقل – بقصة مقتل الشاعر الإسباني الأندلسي القرطبي “فيدريكو غارسيا لوركا”، أو مثلها، تلك القصة الأسطورية البطولية المُلهِمة، التي واجه فيها الشاعر بشجاعةٍ منقطعة النظير رصاص الديكتاتور، واقفاً بكل بسالة فداء للحرية والكلمة الحرة، ومات كما ينبغي أن يموت كل حر؛ وفاءً للقول والكلمة، ولكن حقاً أنّ الباطل لجلج، وليس هناك ثمة “لجلجة” أكثر بؤساً من أن يقف أديب، أو من يقدِّم نفسه بهذه الصفة، وهو يحكي عن قصص نابليون ويحدِّثنا عن بداهة ابتدائية بليدة عن الجزائر بوصفها بلد المليون شهيد؟! يا للبؤس- فإذا كان هذا هو حال مثقف الانقلاب فإننا بلا شكّ مطالبون بالاعتذار لأحد صناع الانقلاب “ياسر العطا”، عندما سخرنا منه ولم ندعه يُكمل قصته التي ثبت الآن، بعد استمعنا إلى مثقف الانقلاب؛ أنها هي الأخرى ملهمة جداً، وأقصد هنا قصته عن “الجندي الذي يعرق والكاكي الذي يعرق”، دون أن يقول لنا مغزاها ومنتهاها، ولابُدّ إنّ نهايتها كانت أن “عرق الكاكي وعرق الجندي”، يصُبان معاً في عقل “عبد العزيز بركة ساكن”، وهنا يكمُن الإلهام، انه إلهام الانقلاب!
انتهت حكايتنا مع أديب الانقلاب، إلا لو عاد فنعود، حتماً نعود، وله منا هنا هدية – لعل وعسى -، وهي آخر ما قاله الشاعر والأديب البطل الخالد (لوركا) :
ما الإنسان دون حُرية يا ماريانا؟
كيف أستطيع أن أُحبك إذا لم أكن حُراً؟
كيف أمنحك قلبي، وقلبي ليس ملكي؟