يوما تلو آخر تزداد المعاناة التي يعيشها المواطنون بسبب النقص الحاد في الدواء وعدم توفره وتزداد الأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد صعوبة وانسداد أفق الحل ووقوف الحكومة في خانة المتفرج أمام معاناة المواطنين،
وتعاني البلاد منذ بداية هذا العام من أزمة دواء أفرزت أوضاعا كارثية على العالمين في قطاع الدواء وتوقفت على إثرها شركات استيراد الأدوية والتصنيع المحلي عن العمل بسبب انعدام النقد الأجنبي المدعوم، مما أتاح تنشيط سوق الدواء السوداء من قبل بعض التجار ومضاعفة أسعاره،
فبسبب عدم إيفاء الدولة بالتزامها المتعلق بتوفير النقد توقفت عمليات الاستيراد منذ بداية العام مما سبّب ندرة في معظم الأدوية في الشركات والصيدليات،
وتوفر الشركات المستوردة النسبة الأكبر من الأدوية، ومعلوم أن البلاد ظلت ترزح تحت وطأة الأزمة منذ أربعة أعوام وذلك عقِب إعلان الحكومة عن إلغاء الدعم للأدوية لترتفع بعدها الأسعار،
ومن المتوقع أن تزيد الفجوة الدوائية في الأسابيع القادمة في ظل عجز الحكومة عن معالجة أسباب الازمة وإيجاد الحلول بتوفير النقد الأجنبي للشركات، وتقول احصائيات إن ما تم استيراده خلال العام الجاري يمثل فقط 6٪ .
الأوضاع الآن تبدو في طريقها لمزيد من التعقيد فالإشكالية القائمة حاليا لاتشكل هاجسا للحكومة الانتقالية التي تضرب بأزمة الدواء عرض الحائط وتبدو منشغله بقضايا أكثر إلحاحا وأهمية من صحة الناس،
وبحسب أمين مكي مدني عضو نقابة الصيادلة فإن الأمر في غاية الغرابة أن تمارس حكومة الثورة هذا العجز والصمت إزاء واحدة من أهم القضايا والمطلوبات التي خرج الناس من أجل توفيرها
ويقول مكي في حديثه لـ”اليوم التالي” إن الدواء واحد من الأساسيات التي ينبغي على الحكومة أن تتعامل معها بشكل جدي وأن تبحث لحلول عاجلة لإنهاء الأزمة التي بلغت ذروتها ومتوقع أن تتسبب في انهيار تام للقطاع،
مدني يقول نستغرب جدا مما يمارسه رئيس الوزراء وعجزه في التعامل مع الأزمة فبرغم الوعود التي بذلها إلا أن الحكومة حاليا عاجزة تماما عن معالجة الأمر، وبالرغم من الاتفاق الذي تم بتضمين الدواء داخل محفظة السلع الاستراتيجية والاتفاق على أن تقوم المحفظة بتسليم الشركات المستوردة النقد الأجنبي بسعر البنك المركزي وأن تلتزم المالية بسداد الفرق في السعر إلا أن الأمر لم يتم حتى الآن وأصبح مجرد حبر على ورق ليس إلا،
ويؤكد أمين أن المسألة حاليا تقف في محطة محفظة السلع الاستراتيجية التي تنتظر وزارة المالية للوفاء باتفاقها وتقديم الضمانات أو السندات المطلوبة التي تضمن للمحفظة استراداد الأموال التي تدفعها لشركات المستوردة للدواء،
ويشير إلى أن الشركات أوفت بما عليها وسلمت المحفظة الفواتير الخاصة بالاستيراد على مرتين ولكن الأمر لا يزال متوقفا فالمحفظة في انتظار المالية التي بدورها لا تولي الاتفاق أو الأمر أدنى اهتمام باعتبار أن الدواء اللوم في ندرته يقع على وزارة الصحة وليس المالية،
وحول الأسباب التي دفعت المالية لعدم الالتزام ينوه أمين إلى أن الاتفاق مع المحفظة عندما تم كان سعر الدولار في السوق السوداء يفوق المائة جنيه أو في حدود المائة وعشرين ولكن بعدها بأيام بدأت القفزة العالية للسعر ما يجعل المالية تتماطل في الوفاء بعهدها والاتفاق مع المحفظة، مضيفا رغم الضغوط التي تمارس عليها من قبل محفظة السلع الاستراتيجية ووزارة الصحة إلا أنها لم تفي بما عليها أو بتقديم السندات المطلوبة للمحفظة حتى تبدأ الأزمة في الانفراج.
وخلال الأشهر الماضية نفذ أصحاب الصيدليات إضراباً عن العمل، ولكنهم عادوا عنه بطلب من رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، ثم رفعوا مذكرة إلى مجلس الوزراء الانتقالي، طالبوا فيها بضرورة تعامل الدولة مع الدواء كسلعة استراتيجية، وإنشاء محفظة دائمة لتوفير مطالبهم ،
وفي أبريل الماضي اتفق المجلس القومي للأدوية والسموم مع غرفة مستوردي الأدوية على رفع تسعيرة الأدوية المستوردة بنسبة 16% وزيادة هامش الربح للصيدليات إلى 20%، مع تطبيق هذه الزيادة بأثر رجعي، ولكن وزير الصحة د. أكرم التوم وقتها ألغى القرار مبررا أن سعر الدواء قد زاد كثيرًا على المواطن العادي فنشبت على إثرها معركة حامية الوطيس بين الوزير وشركات المستوردة،
وفي شهر مايو الماضي ألغى بنك السّودان المركزيّ نسبة 10 بالمائة من عائدات الصادرات المخصّصة لاستيراد الأدوية، ممّا أثّر على مخزون الأدوية، وتعجر الحكومة الانتقالية عن توفير مبلغ شهري بالدولار لاستيراد الأدوية ،
ويقول مراقبين الحل الوحيد للنجاة من أزمة الدواء هو توفير 55 مليون دولار شهرياً، 20 مليون للقطاع الحكومي، و10 ملايين للقطاع الخاص، و25 مليون لقطاع الاستيراد. وخلال ستة أشهر، تم توفير أدوية بقيمة 9 ملايين دولار، في الوقت الذي كان السودان يحتاج إلى أدوية بقيمة 300 مليون ، كما أن عدم وضع سياسة دوائية واضحة .
وبالنسبة لـ محمد ابراهيم الطيب محمد صيدلي فإن الحل الوحيد لمعالجة الأزمة الحالية التي يشهدها قطاع الدواء يتمثل في تحرير سعر الدواء بالكامل سيما بعد العجز الواضح للحكومة الانتقالية وعدم تمكنها من توفير الدولار بالسعر الرسمي للشركات المستوردة،
ويشير محمد ابراهيم إلى أن الأوضاع بالنسبة للدواء في النظام البائد كانت أفضل كثيرا باعتبار أن الحكومة كانت تقوم بتجنيب نسبة “10%” من حصائل الصادر لاستيراد الدواء وهو الأمر الذي قام الحكومة الانتقالية بإلغائه تماما وبسببه تفاقمت الأزمة واتسعت الفجوة، كل ذلك مصحوبا بعدم قدرة التصنيع المحلي على سد الفجوة سيما وأنه يغطي نسبة ضئيلة في سوق الدواء فكل الأصناف الأخرى من الأدوية الضرورية والأدوية المنقذة للحياة تستورد من الخارج بواقع “600”مليون دولار في العام،
ويؤكد محمد لـ”اليوم التالي” أن البلاد ولمدة عام كامل لم تستورد أي أدوية مما انعكس سلبا على الصيدليات التي أصبحت خاوية على عروشها، وقال هذا في اعتقادي أمر عبث بأرواح المواطنين وتسبب في وفاة المرضى بانعدام الادوية،
وأضاف قبل تفشي كورونا كانت الوضاع أفضل فتجار الشنطة كانوا يسدون الفجوة من خلال إدخال بعض الأدوية من مصر والخليج والحكومة تغض الطرف عنهم لأن الأمر يسهم في تخفيف حدة شح الأدوية ولكن عقب كورونا وزغلاق المعابر توقفت هذه التجارة وازدادت الأوضاع سواء ، وبعد مزاولتهم لنشاطهم حاليا عقب استئناف الرحلات من وإلى البلاد أصبحت سوق سوداء وأسعار عالية جدا والمرضى لا خيار أمامهم سوى شراء الدواء، لذلك فإن الأفضل أن تقوم الحكومة بتحرير سعر الدواء لتضمن توفره بجودة مضمونة وظروف تخزين ونقل جيدة بدلا مماهي عليه الأوضاع الآن،
ويشير محمد كما ينبغي عليها مواجهة كلفة ارتفاع أسعاره بعد التحرير بتوسيع مظلة التأمين الصحي للتخفيف على المواطنيين وأن تتحمل كلفة علاج الأطفال دون الخامسة والنساء الحوامل ومرضى الكلى، وفيما يتعلق بتضمين الدواء في محفظة السلع الاستراتيجية يقول محمد الطيب إن المحفظة فشلت في تنفيذ الاتفاق الذي تم بخصوص الدواء سيما بعد أن عجزت وزيرة المالية في تنفيذ الاتفاق والوفاء بما تعهدت به، لافتا إلى أن آخر اجتماع مع وزير الصحة المكلف أبلغهم فيه أن الوزيرة تعتذد عما حدث وأنها تعد بتنفيذ الاتفاق ومعالجة المسألة في أقرب وقت
.
وبالعودة إلى عضو نقابة الصيادلة أمين مكي مدني يؤكد لـ”اليوم التالي” بأن استمرار الأوضاع كما هي عليه الآن سينذر بكارثة على البلاد وعلى الشركات المستوردة فبسبب ما يدور حاليا سيفقد السودان شركات الدواء العالمية ووكلائها في المنطقة،
وتوقع أمين بنهاية العام الحالي أن خروج مجموعة شركات من السوق السوداني وإغلاق المكاتب وتسريح الموظفين باعتبار أن العمل أصبح صعبا جدا، فالشراء من السوق السوداء والالتزام بالبيع بسعر البنك المركزي والتسعير على هذا الأساس لن يكون مجديا بالنسبة لها، لافتا إلى أن خروج هذه الشركات لن يؤثر عليها فسوق السودان لايمثل شيئا كبيرا لديها مقارنة ببقية أسواق العالم أو المنطقة وفي نهاية المطاف فإن المتضرر هو الشعب السوداني وليست الشركات،
ومؤخرا بحسب أمين فإن بعض الشركات وافقت على التعامل بالدين مع الحكومة وبدأت باستيراد الأدوية ولكن عند وصولها الميناء تفاجأت بعدم منحها الأموال لإكمال عملية التخليص، والصناعة المحلية لن تغطي 40 % من حوجة البلاد وإلى أن تصل لتغطية كل ما تحتاجه لابد من وجود شركات مستوردة وتكلفة توفير النقد الأجنبي مهما بلغت فإنها ينبغي أن لا تقف عائقا أمام دولة تنشد الاستقرار،
أمين يشير في حديثه أن الحكومة بعجزها الحالي و”طناشها” لمسألة الدواء تفقد وتخصم الكثير من فرص نجاحها وتمضي لحتفها ، فالصحة هي الأساس وهي التي تسقط الحكومات، وبحسب رأيه فإن الحكومة الآن بين مطرقة الشارع وسندان الدواء المعدوم، ويجب عليها التحرك وإيجاد حل سيما وأن اتفاق المحفظة يبدو أنه لن يتحقق في ظل تلكؤ المالية كما يمكنها تحريك سعر دولار الدواء في المركزي من “55”إلى “70”كخطوة أولى يمكن أن تشجع المالية على الوفاء باتفاقها مع المحفظة.
ويضيف أمين مكي مدني أن المسألة مهنية ولا أبعاد سياسية خلفها فأزمة الدواء عملية فنية بحتة يتعلق بدور الشركات في توفير الفواتير والمطوبات الكاملة للحكومة التي بدورها ينبغي عليها أن توفر الضوابط والدولار المدعوم بسعر البنك المركز لاستيراد الدواء والبيع وفقا للتسعيرة المحددة، وفي ظل عدم توفر ذلك تتاح الفرصة للسوق السوداء لينشط ومهما كان حجمه فإنه لن يغطي كافة الاحتياجات فضلا عن عدم الثقة في الدواء وظروف تخزينه ونقله ومواصفاته.