في الذكرى الثانية لانفجار جحيم الحرب الكارثية التي بدأت في 15 أبريل 2023، يتكرر المشهد ذاته، لكن بأكثر بشاعة ووحشية.
في صباح 15 أبريل 2025، وبينما يسترجع السودانيون وجع الذكرى، استفاقت قرية “أم عردة” الواقعة غرب مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان، على مجزرة مروعة ارتكبتها القوات المشتركة وكتيبة البراء المدعومتان من قيادة الجيش المليشياوي، حيث تم ذبح عشرات المدنيين العُزّل بدم بارد، بحسب شهادات ميدانية وتقارير موثقة.
في واحدة من أبشع جرائم الحرب التي تشهدها البلاد منذ اندلاع النزاع، تحوّلت “أم عردة”، القرية التي مثّلت لسنوات نموذجًا حيًا للتعايش المجتمعي بين قبائل الفولاني، المسيرية، والبديرية، إلى ساحة إبادة جماعية ممنهجة استهدفت التنوع العرقي، وتعايش الناس، وكل معنى من معاني السلم الأهلي.
هذه الجريمة ليست معزولة، ولا عفوية، بل هي جزء من نمط مدروس ومنفذ بدقة من عمليات التطهير العرقي والقتل على أساس الهوية، تقوده تشكيلات عسكرية ترتدي زي الجيش، لكنها تتحرك بعقيدة مليشياوية ترى في التنوع خطرًا، وفي السيطرة عبر الدم وسيلة للبقاء.
ما وراء المجزرة: قانون للقتل لا للعدالة
ما جرى في أم عردة لم يكن مجرد حادثة عابرة أو صدامًا مسلحًا يمكن تجاوزه بالصمت أو التجاهل، بل هو جريمة مكتملة الأركان، تعكس امتدادًا واضحًا ومباشرًا لنهج منظم من عمليات القتل الجماعي والتطهير العرقي، الذي بات سمة مركزية في سلوك الجيش المليشياوي منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023.
لم تكشف فقط بل اكدت هذه الحرب عن الوجه الحقيقي الكالح والعاري لوحشية المؤسسة العسكرية، التي لطالما تم تقديمها كرمز للوطن، بينما هي في حقيقتها أداة مركزية لإبادة السودانيين منذ أكثر من 70 عامًا، بأشكال مختلفة وتحت غطاءات متعددة.
وتبقى مجزرة معسكر سركاب في كرري قبل عامين ونفس تاريخ اليوم ١٥ ابريل ٢٠٢٣ واحدة من الشواهد الأكثر فظاعة على هذا السلوك الدموي، حين قامت طائرات الجيش بقصف آلاف الجنود العزّل من قوات الدعم السريع وهم في حالة انسحاب، دون أن يحملوا سلاحًا، أو يشكلوا أي تهديد عسكري مباشر، ما أدى إلى إبادة أكثر من 4000 شاب سوداني في مشهد يعكس أعلى درجات الانحطاط الأخلاقي والمؤسسي، والاستهانة الفجة بأرواح السودانيين.
تمت كل هذه الجرائم تحت مظلة قوانين خُطّط لها لإضفاء شرعية زائفة على العنف السياسي والعسكري، مثل:
- قانون الوجوه الغريبة
-الداعمين والمتعاونين
وهي قوانين تحوّلت إلى أدوات للإعدام على الهوية، تُطبّق بانتقائية ضد من لا يُصنفون ضمن مشروع السلطة، أو من تنتمي جذورهم الجغرافية والقبلية لما تعتبره الدولة المركزية “هامشًا مشبوهًا”.
لقد استُخدمت هذه السياسات الدموية في تنفيذ مجازر ميدانية جماعية في مناطق عدة، منها:
- ولاية الجزيرة (المعليق، الشرفة، مدني): حيث جرت تصفيات ميدانية للمدنيين بشكل ممنهج.
- سنار والقضارف: تحت ذريعة الانتماء الإثني والجغرافي، جرى استهداف واسع لقبائل ومكونات بعينها.
- الخرطوم الكبرى (بحري، أمدرمان، الخرطوم، جنوب الحزام): حيث شُنّت إعدامات ميدانية على أساس الانتماء الجغرافي، ووصم الآلاف بالانتماء لما يسمى بـ”الحواضن الاجتماعية للدعم السريع”.
- الشمالية ونهر النيل: حيث جرت حملات اعتقال وتصفيات استهدفت أبناء مناطق محددة، بناءً على لهجتهم أو أسمائهم أو أماكن ولادتهم، وبتهم ملفقة بأنهم “خلايا نائمة”.
كل هذه الجرائم ليست حالات فردية، ولا أفعالًا عشوائية، بل هي حلقات متصلة في مسلسل تطهير عرقي منظم، تُديره حكومة بورتسودان، التي باتت تمثل الواجهة السياسية والعسكرية لدولة منحازة، تُسيطر عليها فئة تعتنق أيديولوجيا الهيمنة المركزية العنصرية، وتُغطي جرائمها بواجهات مدنية وأمنية، وبتواطؤ إعلامي، ووسط صمت دولي مخجل ومريب.
القانون أداة للقتل الجماعي
الفظاعة لا تتوقف عند الجريمة ذاتها، بل تتضاعف حين تتحوّل القوانين من أدوات للعدالة إلى أدوات للذبح والشرعنة الرسمية للقتل الجماعي.
في السودان اليوم، يُصنَّف المدني بحسب لهجته أو قبيلته أو مكان ولادته، وتُعلّق عليه تهم جاهزة دون محاكمة أو تحقيق: “وجه غريب”، “داعم للتمرد”، “متعاون مع الدعم السريع”.
بفعل هذا الإرهاب الممنهج، هرب مئات الآلاف من المواطنين من الخرطوم والجزيرة وولايات سنار باتجاه غرب السودان ومناطق سيطرة الحركة الشعبية، طلبًا للنجاة لا للقتال، بعد أن أصبحت منازلهم مسالخ بشرية.
أما من لم تسعفه الظروف على الفرار، فقد أصبح ضحية للذبح الميداني، يُقتل بالسكاكين أو يُعدَم بدم بارد، دون تمييز بين كبير أو صغير، امرأة أو رجل، أمّ أو رضيعة.
لا أحد كان آمنًا من بطش هذا المشروع الدموي.
ما يحدث ليس مجرد عنف ميداني، بل هو تنفيذ ممنهج لمشروع إعادة هندسة التركيبة السكانية في وسط وشمال وشرق السودان، يقوم على طرد المجتمعات غير المرغوب فيها لصالح هيمنة مجموعات متطرفة، تتخفى تحت لافتات كاذبة مثل “أبناء البحر” و”أبناء النهر”، وتسعى لإحكام السيطرة على مفاصل الدولة والثروة والهوية.
إنه مشروع العصابة العميقة المنحازة، التي تتوسل بالحركة الإسلامية كواجهة، وبفلول الدواعش كأداة، وبالقانون كمطرقة قمع، لإعادة إحكام قبضتها على السودان بطريقة أشد تطرفًا من أي عهد سابق.
هذه الجرائم – من الإبادة الجماعية، إلى التصفيات العرقية، إلى القتل على أساس الدين أو العرق – ليست جديدة على هذه المنظومة، فقد كانت السبب في انفصال جنوب السودان، وهي من وضعت السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب، وجعلته مصدر قلق دولي وإقليمي بسبب ما ارتكبته في دارفور، جبال النوبة، والنيل الأزرق.
وقد وثّقت هذه الجرائم منظمات دولية، ومراكز حقوقية، ومحاكم دولية، ونتج عنها تهم رسمية في المحكمة الجنائية الدولية ضد رموز النظام السابق.
لكن المؤلم أن كل ذلك لم يردع هذه العصابة من مواصلة جرائمها اليوم، بل عادت بصورة أشد وحشية، وأكثر وقاحة، وبغطاء رسمي كامل، وكأنها تتحدّى العالم، وتتغذى من صمته. وهكذا يتحوّل التنوع إلى تهمة، والهوية إلى حكم بالإعدام.
دعوة عاجلة للعدالة والضمير الإنساني
ما حدث في “أم عردة” وصمة في جبين الإنسانية، وجرح في نسيج السودان لا يلتئم إلا بالعدالة. الصمت لم يعد خيارًا، ومهما حاولت السلطة تغليف الجرائم بالشعارات، فإن الحقيقة تشق طريقها.
يجب:
- فتح تحقيق دولي عاجل وشامل.
ملاحقة جميع المتورطين محليًا ودوليًا.
- إدانة خطاب الكراهية والتمييز العرقي بكل وضوح.
- استعادة ما تبقى من النسيج المجتمعي بحماية القانون لا توظيفه.
إن “أم عردة” ليست مجرد قرية سودانية وقعت في فخ الجغرافيا والدم،
بل هي مرآة مكشوفة تعكس الوجه الحقيقي للدولة حين تخلع قناعها،
وجهٌ يرى في التنوع تهديدًا، وفي الكلمة جريمة، وفي الدم طريقًا للهيمنة.
هي اختبار لكل من يرى ويسكت، ولكل من يعرف ويصمت،
لأن الصمت هنا ليس حيادًا… بل شراكة غير معلنة مع الجريمة.
إما أن نكسر هذا المسار الدموي الذي يريد أن يعيد تشكيل السودان على جثث أهله،
أو نتركه يكسرنا جميعًا، واحدًا تلو الآخر،
بصمتنا، وتواطئنا، وخوفنا.
أنا لا أكتب للصدفة، ولا أعلّق على الهامش…
بل أحاول في قناتي “إسماعيل هجانة – الحكاية الأعمق من الحرب”
أن أحفر في العمق، أن أقول ما لا يُقال،
أن أنقل الحكاية كما هي… بلا رتوش، بلا تجميل، وبلا مجاملة.
لأن الحقيقة وحدها قادرة على إنقاذ ما تبقى.
تابعوا قناتي “إسماعيل هجانة – الحكاية الأعمق من الحرب”، حيث نحاول دائمًا أن نحفر في العمق… وننقل الحكاية كما هي، بلا رتوش.