في خضم حربٍ أهلية تجاوزت عامها الثاني، لم يعد ما يجري في السودان مجرد صراع مسلح على السلطة، بل تحوّل إلى اختبارٍ وجودي لمفهوم الدولة ذاته، وسط فوضى مؤسساتية وتآكل للشرعية وغياب للمركز الجامع. الأزمة، في جوهرها، ليست وليدة اللحظة، بل هي امتداد لانحراف منهجي في إدارة المرحلة الانتقالية، حيث اختُزلت الدولة في معادلات أمنية، وتحوّلت القوات المسلحة السودانية من ضامنٍ للوطن إلى فاعل سياسي مشبعٍ بالحسابات الفئوية والولاءات غير الوطنية.
لقد اتخذت المرحلة الانتقالية، بدلاً من أن تكون بوابةً لتحديث النظام السياسي وإصلاح المؤسسة العسكرية، مساراً عكسياً قاد إلى إعادة تموضع تيارات الإسلام السياسي داخل مفاصل الدولة. هذه التيارات، التي لفظها الشارع السوداني بثورته عام 2018، عادت إلى الواجهة ليس من باب المصالحة الوطنية أو عبر تسوية تاريخية، بل عبر تحالفٍ مصلحي مع جناح من السلطة الانتقالية، وجد في عودتها رافعةً ظرفية لتثبيت نفوذه وتأجيل الحساب الشعبي. وهذا التحالف الموضوعي مع تيارات الإسلام السياسي مكّنها من استعادة مواقعها داخل المؤسسة العسكرية، بما في ذلك التشكيلات النظامية الخاصة ودوائر القرار الحساسة، وهو ما ظهرت آثاره في تنشيط ميليشيات إسلامية موازية للجيش الرسمي، في تكرار خطير لنموذج الحرس الثوري داخل الدولة الوطنية.
هذا التمكين المزدوج: الأمني والسياسي، ساهم في مضاعفة الاحتقان، وقطع الطريق على أي إصلاح حقيقي لمسار الانتقال، وبدّد رصيد الثقة بين مكونات المشهد المدني والعسكري على حد سواء. وإذا كانت معركة القصر الجمهوري في مارس 2025 قد قُدّمت كدليل على استعادة هيبة الدولة، فإن مجريات الأحداث في الأطراف السودانية، لا سيما في دارفور وكردفان، فضحت الطابع الاستعراضي لهذا «النصر»، الذي لم يُترجم إلى استقرار ميداني، ولا إلى استعادة السيادة الفعلية على كامل التراب الوطني.
فالواقع أن السودان بات اليوم مقسماً إلى مناطق نفوذ، بين مركز يتآكل بفعل الفوضى السياسية، وأطراف تتنازعها قوى الأمر الواقع، وبعضها لم يتردد في إعلان حكومات موازية كسلطة بديلة، مستغلةً غياب الدولة ومركزيتها. كل ذلك يحدث في ظل مأساة إنسانية متفاقمة: آلاف القتلى، ملايين النازحين، انهيار تام للخدمات الأساسية، ومجاعة تهدد ملايين الأرواح. ورغم فداحة هذه الأرقام، فإن الخطاب الرسمي لا يزال يراوح مكانه، بين إنكار الواقع وادعاء الاستقامة في المسار، فيما تغيب أي بادرة فعلية لمبادرة إنقاذ وطنية تنطلق من مبدأ الاعتراف بالأخطاء والقطع الجاد مع منطق الاستبداد والشمولية. المفارقة المؤلمة أن القوى التي تعيد صياغة المشهد اليوم، هي ذاتها التي كانت سبباً في انهيار السودان خلال العقود الماضية، من خلال توظيف الدين في خدمة السلطوية، وتحويل القوات المسلحة إلى ذراع أيديولوجية، وتفكيك الحقل السياسي تحت مسمى «التمكين».
ولعل العودة القوية لبعض الشخصيات المحسوبة على عهد ما قبل الثورة، وسط صمت سياسي، وتواطؤ مؤسسي، تكشف أن السودان لا يعيد فقط إنتاج رموزه، بل يعيد أيضاً إنتاج آلياته القديمة في الحكم والسيطرة. فهل يُعقل بعد كل هذه التضحيات أن يُختزل مستقبل السودان في تحالف بين السلاح والعقيدة؟ وهل يمكن بناء دولة وطنية مدنية حديثة في ظل استمرار التمكين الخفيّ، والإقصاء الصامت، والتوظيف السياسي للدين؟ وهل يملك السودانيون بعد هذا المسار المنكسر، فرصةً فعلية لاجتراح طريق ثالث، خارج ثنائية العسكر وتيارات الإسلام السياسي؟ أم أن دائرة الفوضى ستتسع حتى تبتلع الوطن بأكمله؟