- يُقال في الشعر العربي القديم؛ حتى صار مَثَلًا: (لقد أَسْمَعْتَ لو ناديت حيًا – ولكن لا حياة لمن تنادي) – ومن هذا المنطلق وبعد أن كنا قد كتبنا – عند بداية التفاوض بين المدنيين والعسكريين – في مقالاتٍ سابقةٍ لنا ومنشورة بالصحف؛ أوضحنا من خلالها الأسس السليمة للتفاوض (جناحين “عسكري ومدني” وليس طرفان)، وما يجب أن يكون عليه شكل ومضمون ما يخرج به ذلك التفاوض (مجلس قيادة للثورة؛ وليس مجلس سيادة لنظام برلماني)، وما يجب أن يكون حاكمًا لذلك المجلس (مرسوم ثوري أساس؛ وليس وثيقة دستورية) – وفي رؤئً متخصصةٍ من حيث الجوانب القانونية المتعددة والمرتبطة بذلك التفاوض (خاصةً التأسيس السليم للحكم في الدولة) – ولكن دونما جدوى من المُتأقيمين على الأمور.
- وقبل مدةٍ طالعنا حديثًا للسيد وزير الثقافة والإعلام لوكالة “فرانس برس” – قال فيه وبما يبدو تَعَجُبًا ما يلي:
(…. هناك تباطؤًا من المجتمع الدولي والإقليمي لا نملك له تفسيرًا …. إلخ) – - ونحن من جانبنا نضع بين يدي السيد الوزير نسخةً من مقالنا هذا، لِنُمَّلِكه التفسير لتباطؤ المجتمع الدولي والإقليمي – بل بالأحرى قل عزوف المجتمع الدولي والإقليمي – فذلك هو بعينه ما يترتب على مخالفة قواعد القانون الدولي الوجوبية الآمرة، فكيف نتعشم مد يد العون من المجتمع الدولي والإقليمي لبلادنا؛ وقد خالف الإتفاق السياسي والوثيقة – بين المدنيين والعسكريين – قواعد وجوبية آمرة لذلك المجتمع الدولي والإقليمي؟!
- ومن ثم ولتوضيح كل ذلك تفصيلًا؛ نوجه اليوم كلماتنا للشعب السوداني مُفَّجِر الثورات العظيمة، الذي يعتبر موردًا بشريًا ثريًا؛ وهو يتطلع بعزيمةٍ قويةٍ ليضع بلادنا في مصاف الدول الغنية والمتقدمة، لعلمه وقناعته بما يزخر به سوداننا الحبيب من موارد طبيعيةٍ ضخمة؛ قلما أن تتوافر في بلدانٍ أخرى –
- ويحضُرنا هنا ما كان عليه سوداننا الحبيب من واقعٍ مُعاش زمن أجدادنا وآبائنا – وهو أن المستعمر البريطاني وبعد أن كان يدير الشأن العام للسودان، قد تركه وهو ينعم باقتصادٍ يكاد يكون الأقوى في العالم حينها، بل كان الجنيه السوداني أعلى قيمةً من الجنيه الإسترليني (العملة البريطانية للمستعمر نفسه) – وحتى نضع القارئ الكريم على حقيقة قيمة الجنيه السوداني حينها، نقتبس ما جاء من تعريف له في إحدى النشرات لوزارة المالية والإقتصاد في العام 1957م، حيث جاء ذلك التعريف كالتالي:
(الجنيه السوداني عقد بين لجنة العملة السودانية وبقية العالم يحوز بموجبه الجنيه السوداني على قوةٍ شرائية تُقدر قيمتها بـ: 2,55187 جرامً من الذهب الصافي. إنتهى – (أي أكثر بقليل من إثنين ونصف جرام من الذهب الصافي – إهداء للسادة بوزارة المالية).
2 * فهل كان المستعمر البريطاني؛ ساحرًا أو ما شابه ذلك؟! - الإجابة قطعًا “لا” – فواقع الأمر أن المستعمر البريطاني قد عَرِفَ بالموارد الطبيعية الضخمة للسودان، فعمل على إدارتها وتوظيفها بما يخدم جمهورية السودان؛ ويصب في مصلحة اقتصادها كدولةٍ (وليس في مصلحة بعض أفرادها) – فما الذي يحول بين ما كان من وضعٍ اقتصادي مزدهر للسودان حينها – وما نحن عليه اليوم من حالٍ لا يسُر صديقًا ولا حتى عدوًا – والسودان بموارده الإقتصادية الضخمة؛ هو ذاك السودان ذاته (رغم اقتطاع جزءٍ عزيزٍ منه “نتضرع للمولى عودته”)؟! – وفجيعتنا الكبرى كسودانيين؛ أن هنالك ومن هم وآأسفاه من بني هذا الوطن، يقومون بتخريب وتدمير اقتصاد بلدهم – ولمصالح شخصيةٍ أو حزبيةٍ بغيضة – وهو فعل يُشَكِل جريمةً (تخريب الإقتصاد الوطني) أقصى عقوبتها السجن عشر سنوات فقط – ما يتطلب أولًا تعديلًا ثوريًا سريعًا للقانون؛ نوسع بموجبه من تعريف تلك الجريمة، ونضيف إليها جريمة تزييف العملة الوطنية والتهريب، ولنصل بالعقوبة عليها إلى حد الإعدام؛ مع التفعيل والتطبيق الفوري – وهو ما يتطلبه وبشدةٍ وضع دولتنا الآني، حتى نتمكن من الضرب بقوةٍ وبيدٍ من حديد؛ على مثل أولئك المنتمين لهذا الوطن ووبالًا عليه – إهداء للسادة بوزارة العدل.
2* إذًا فالشعب السوداني هو صاحب الشأن والقرار، ومن ثم يكون من اللازم أن يعلم أولًا المرتكزات الأساسية لثورته وما يصحُبها من قواعد لازمة الإتِّباع؛ مثل “الثورة تُقَيِّدْ ولا تُقَيَّدْ”، وأيضًا ما تخضع له من قانونٍ دولي بموجب عضوية بلادنا (جمهورية السودان) في المنظومة الدولية (هيئة الأمم المتحدة). - فنقول وبلغةٍ بسيطةٍ ليستوعبها الجميع فَهْمًا ودرايةً: إن ما قام به الشعب السوداني من ثورةٍ عظيمة (ثورة ديسمبر/أبريل الشعبية المجيدة)؛ وهو الاسم الصحيح لتلك الثورة وليس (ثورة ديسمبر)، باعتبار أن شرارتها الأولى قد انطلقت في شهر ديسمبر؛ إلى أن آتت أُكلها في شهر أبريل – تلك الثورة المجيدة – والثورات الشعبية عمومًا – إنما تجد سندها من الناحية المرجعية؛ ولما تقوم به من أعمال لصالح دولتها وشعبها خلال المدة الثورية (الإنتقالية)، تجده فيما يُعرف اصطلاحًا بـ “مبدأ الشرعية الثورية” – وبِدءاً لا بد من أن يعرف المواطن السوداني؛ صاحب ومفجر تلك الثورة العظيمة، معنى مبدأ (الشرعية الثورية) – ليتمكن من أن يكون قَيِّمًا على نفسه ولا يركَن في ذلك على غيره، وبحيث يكون قادرًا على التحليل والفهم الصحيح؛ ليُقرر هو وبدرايةٍ وجهته.
- فكل جماعة من الناس تتواجد على رقعة من الأرض (الدولة) وفي زمانٍ بعينه، تتراضى فيما بينها على الإحتكام لنظامٍ بعينه من الحكم ليسود فيها؛ ويحكم علاقات أفرادها ببعضهم وبنظام ذلك الحكم – وهو ما يُعرف بالعقد الإجتماعي (الدستور)، بحيث لا يجوز لأيٍ منهم أو بعضهم؛ تجاوز ما تم بينهم من تراضٍ على نظام ذلك الحكم – وبعد مدةٍ من الزمن تطول أم تقصُر، قد يحدث أن تكون هنالك تجاوزات وانتهاكات خلال تلك المدة؛ من القائمين على أمر الحكم بحق تلك الجماعة من الناس، ما يؤدي إلى انتفاضتهم وثورانهم على نظام الحكم والقائمين على أمره، وبما يُفضي إلى سقوط ذلك النظام وزواله – مثلما حدث من ثورةٍ عظيمةٍ بكل المقاييس للشعب السوداني المعلم.
- وهنا يثور التساؤل – وما الذي يحكم علاقات أفراد تلك الجماعة ببعضهم وبنظامهم الثوري الوليد؟
- وتأتي إجابة ذلك التساؤل محمولةً على فكر “الشرعية الثورية”، الذي يستند وبالأساس على قاعدة أن الشعب هو مصدر السلطات، والذي أصبح مبدأً مستقرًا ومعمولًا به في كل دول العالم.
3 * نأتي بعد تلك المقدمة لتوضيح ما يعنيه “مبدأ الشرعية الثورية” – فنقول: إن الدولة التي تحدث فيها ثورة شعبية وتكون قد تمكنت خلالها من اقتلاع نظام الحكم القائم – كثورتنا السودانية المجيدة – يكون لجماعة الناس الثائرة؛ أن يقوموا بكل ما يروه يصب في مصلحة دولتهم وشعبها، ولهم أن يصدروا ما يروه من قرارات وأوامر؛ بل مراسيم وتشريعات ثورية يكون لها قوة الدستور والقانون، يسندهم في كل ذلك شرعيتهم المستقاة من الثورة؛ وطيلة مدة الحالة الثورية للدولة (المدة الإنتقالية) –
- ولكن يجب عليهم مراعاة أن لا يكون ضمن أيٍ مما يقومون به؛ لصالح دولتهم وشعبها خلال المدة الثورية، ما يُشكل مخالفة لقاعدة وجوبية آمرة من قواعد القانون الدولي (الملزمة للدول) – دون قواعد القانون الدولي الجوازية المكملة (غير الملزمة للدول) – ذلك أن الدولة المعنية هي كغيرها من دول العالم؛ عضو في هيئة الأمم المتحدة، وبالتالي تكون ملزمة بما تضعه تلك الهيئة من قواعد وجوبية آمرة؛ وبما يصدر منها من قرارات، كما قد تكون الدولة المعنية عضوًا في إحدى منظمات وآليات المجتمع الدولي – المستقلة عن هيئة الأمم المتحدة – وبالتالي فهي تكون مسؤولةً عما ألزمت به نفسها كعضو في تلك المنظمات والآليات الدولية – ويجب على جماعة الثوار أيضًا؛ مراعاة واتِّباع القواعد المهمة التي تُصاحب الثورات عمومًا، وتأتي على رأس تلك القواعد المهمة وواجبة الإتِّباع: “الثورة تُقَيِّدْ ولا تُقَيَّدْ” – وهو ما لمسنا عمليًا وعلى أرض الواقع؛ واكتوينا بنار ما ترتب على مخالفته فيما يتعلق بالوثيقة – فعلى سبيل المثال – لم يكن بالإمكان تعيين رئيس جديد للقضاء ولا نائب عام؛ في ظل ما تضمنته الوثيقة في هذا الشأن، ما أدى إلى ضرورة الإلتفاف على الوثيقة للعمل أولًا على تعديلها – الشيء الذي أفقدنا كثيرًا من الوقت؛ وفي مرحلة حساسة تؤسِس للحكم.
- بعد ذلك نتطرق لنقطةٍ أخرى مهمة للغاية – تشغلنا كسودانيين وكحال السيد وزير الثقافة والإعلام – وهي:
- السودان ومواقف الدول والمنظمات الدولية – قبل وبعد الإتفاق السياسي والوثيقة.
- لقد درجت عند طرحي لتلك النقطة؛ مع أيٍ من المهتمين بالشأن العام للدولة، على أن أبدأ ذلك بسؤالٍ كالتالي: هل مجموع الدول والمنظمات الدولية؛ التي كانت تقف إلى جانب السودان داعمةً له – عندما كان المدنيون والعسكريون يتفاوضون للوصول إلى صيغةٍ مقبولةٍ لحكم السودان خلال المدة الثورية (الإنتقالية) – هل كان ذلك الوقوف والدعم للسودان حينها؛ حقيقيًا؟ أم كان نوعًا من التمثيل للإيهام بموقفٍ صوري مخالف لحقيقة ما بدواخل النفوس؟؟
- وللحقيقة ما من شخصٍ سألته ذلك السؤال؛ إلا وكانت إجابته وعلى الفور – ومن واقع ما كان ملموسًا وقتها – أن مجموع تلك الدول والمنظمات الدولية؛ كانت تقف إلى جانب السودان وتدعمه حقيقةً في ذلك الحين.
- وبعد استماعي لتلك الإجابة مباشرةً – والتأكد منها بتكرارها من قائلها – كنت أطرح تساؤلًا من نوعٍ آخر، وهو: إذًا لماذا لم يتم دعم السودان بعد الإتفاق السياسي والوثيقة – لا ماديًا ولا حتى معنويًا؟!
- وللحقيقة أيضًا كان الجميع يدخل في حيرةٍ وتعجُب؛ تمامًا كما بدى من تَعَجُّبٍ في حديث السيد وزير الثقافة والإعلام آنف الذكر – فكنت أستشهد بالمثل (إذا عُرف السبب بطُل العجب).
❃السوداني