علي أحمد
مع أن كل شيء واضح وجلي، ظل الصحفي البلبوسي “عثمان ميرغني” الذي اعترف أمس، في حديثه لقناة الجزيرة من السعودية، بأن القرار السياسي لعبد الفتاح البرهان مُتحكمٌ فيه بدرجة كبيرة من قبل النظام البائد “حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية”. وهؤلاء هم صلب وعظم جماعة الإخوان الإرهابية التي أشعلت حرب الخامس عشر من أبريل 2021، وظلت تمنع وتحول دون جلوس الطرفين المتقاتلين على طاولة التفاوض.
ربما جاء اعتراف ميرغني بهذا التحكم “الكيزاني” بقرار البرهان السياسي تزلفًا منه و”بلبصةً” للقيادة السعودية، والرجل معروف بشرهه وحبه لـ”الرز”. لكن بغض النظر عن ذلك، فإن عثمان قد قال الحقيقة المحضة بكلماتٍ واضحة ولغة مباشرة.
إن تعطيل الملف التفاوضي من خلال شعار “بل بس” هو منتج كيزاني صريح وانتقامي، مضاد في الاتجاه ومتجاوز في المقدار لشعار بعض ثوار ديسمبر المجيدة “أي كوز ندوسه دوس”، لأن التفاوض يعني ببساطة شديدة نهايتهم مرةً وإلى الأبد، ما لم يكونوا جزءًا منه.
من يعتقد أن الكيزان لا يريدون التفاوض بالمطلق فهو واهم أيضًا؛ إنهم يريدونه، ولكنهم يريدون تفاوضًا مباشرًا بينهم وبين قوات الدعم السريع. وقد قالتها “صاحبة” الجيش “سناء حمد” صراحة عدة مرات تحت شعار الآية القرآنية الكريمة “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها”. ومعروف قدرة هذا التنظيم الشيطاني على تجيير الدين واستخدامه لدعم مصالحه السياسية.
وفي هذا الصدد، لاحظ مراقبون ومحللون سياسيون أن الحركة الإسلامية الإخوانية، التي أشعلت الحرب وتشارك في القتال دعائيًا وإعلاميًا على الأقل، تكن عداءً كبيرًا تجاه القوى المدنية، خصوصًا تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدُّم) بوصفها واجهة للمدنيين والديمقراطيين السودانيين، ولذلك تعتبرها عدوها الأول والأخير، وتخشى منها كما يخشى الأرنب الذئب. لكنها (الحركة الإسلامية) في ذات الوقت لا تجد حرجًا في القول إنها مستعدة للتحاور مع قوات الدعم السريع، رغم أنها حملت عليها السلاح وحرضت ضدها وشيطنتها، ووصفتها بالمرتزقة وعرب الشتات والقبائل والجهلة والأجانب، ولم تتردد في لفظ منكر وسبابٍ صفيق إلا ووسمتها بها.
باختصار شديد، الكيزان لا يريدون حلًا سياسيًا ينتهي إلى دولة مدنية ديمقراطية؛ يريدون تفاوضًا يسمح لهم بمشاركة السلطة موقتًا مع قوات الدعم السريع، ثم ينقلبون عليها فيرجعوا إلى سيرتهم الأولى وهبلهم الأول، وهو رجوع لا (حميدتي) فيه ولا حتى البرهان نفسه، الذي انقلب على سلطة الشعب وداس على أحلامهم من أجلهم، وسيطيحون به في أقرب فرصة يجدونها.
ومن نافلة القول، إن من يسيطر على قيادة الجيش حاليًا ويحركها يمينًا أو شمالًا هو “علي كرتي” ومجموعته المنشقة عن حزب المؤتمر الوطني، وهي ذات المجموعة ذات الطابع الجهوي (العرقي) التي شنت الحرب على الدعم السريع وتبنت على مستويات متوازية خطاب الكراهية ضد مكونات عرقية معينة، وخطاب (بل بس)، وخطاب تقسيم البلاد مجددًا، والذي أوكلت مهمة الترويج له إلى أحد العنصريين الذي يدعي أنه كان شيوعيًا وأن لا علاقة له بالحركة الإسلامية، ويحاول عبثًا انتقاد الكيزان ليبدو مستقلًا عنهم، وشخصيًا أصدق رواية شيوعيته، ولا يوجد فرق في الوقت الراهن بين بورتسودان وبطرسبرغ!
إن إنتاج خطاب الكراهية والعنصرية من أجل إطالة أمد الحرب لهو فكر كيزاني بامتياز، ففي عهدهم ظهرت مجالس شورى القبائل وجهاز أمن القبائل، وظهر تسليح القبائل وتعاظم دورها السياسي، حتى أصبحت بديلاً للأحزاب المدنية. وهذا ما تتبناه الحركة الإسلامية إلى الآن، إذ تنادي بتسليح السودانيين بصفاتهم القبلية وليس (المواطَنية) ليدافعوا عن وجودها ومستقبلها، فيما تضع أهلهم أمام النيران قرابين لمشروعها، كما حدث لمواطني قرى الجزيرة والبطانة وسنار.
يتقرب “عثمان ميرغني”، وهو صحفي انتهازي معروف و”كوز” بدرجة من الاستقلالية بالقدر الذي تساعده على المساومة بمواقفه وتسويقها وعرضها في بورصة البيع والشراء، من السعودية وغيرها ما شاء، ويتوسل إلى ذلك بما شاء. لكن ما قاله عن أن المؤتمر الوطني هو من يعطل المفاوضات، وأنه من يتحكم في القرار السياسي لعبد الفتاح البرهان، صحيح. وبالتالي، ينبغي معاقبة هذا التنظيم وتحميله المسؤولية عن كل الجرائم التي حدثت في الحرب، ولا يعني هذا إعفاء المشاركين فيها، كلٌّ بقدره.
نحن نحب الحقيقة، وعثمان ميرغني يحب “الرز”، وقد نطق بالحقيقة التي ضنّ بها طوال 19 شهرًا في أول يوم لوصوله السعودية.. ومن جعل الرز بديلاً للطعمية فقد فاز فوزًا عظيمًا واختار الذي هو خير وعاف الذي هو أدنى.. هنيئًا مريئًا، كلٌّ منا يأكل زاده.