ظهور د. حمدوك في الساحة السياسية بدعم شعبي غير مسبوق وخطة واضحة المعالم في الاقتصاد والسياسة جعل مصر تشعر بأن هذا التكنوقراط القادم من مراكز القوى الإقليمية والدولية سوف يشكل خطرًا على مستقبلها السياسي ومكانتها التي حظيت بها في المحيط الإقليمي. فقد طرح د. حمدوك، في مجال الاقتصاد، رؤية جديدة للصادرات السودانية التي كانت وما زالت تخرج برًا إلى مصر بعد الحصار الاقتصادي الذي فرضه المجتمع الدولي على حكومة البشير. فقد اعتبرت حكومة مصر أن أرض السودان امتداد طبيعي لأراضيها تمد الاقتصاد المصري بمنتجات الثروة الحيوانية والزراعية والغابية، وتعبئتها بتقنيات حديثة أو تضاف إليها قيمة جديدة ثم يعاد تصديرها للخارج ضمن المنتجات المصرية. تم هذا العمل بواسطة شركات وأفراد نافذين داخل حكومة الإنقاذ، ويمكن أن نلحظ أثر ذلك في اختفاء غابات بأكملها في وسط وشرق السودان وارتفاع أسعار اللحوم حتى في مناطق الإنتاج والتغير الذي طرأ على محفظة المنتجات الشتوية بدخول التسالي كمنتج جديد تحتاجه مصر بشدة لدعم الميزان التجاري.
كانت رؤية حمدوك التي طرحها في الإعلام هي قطع هذا الحبل السري الذي يغذي الاقتصاد المصري على حساب الاقتصاد السوداني، وذلك بإيقاف تصدير المواد الخام إلى مصر والعمل على تحويل هذه المواد إلى سلع تامة الصنع، تحمل ديباجة التصدير من السودان. هذه السياسة ستؤدي إلى رفع احتكار مصر للصادرات السودانية ومن ثم التأثير سلبًا على ميزانها التجاري، ودخول منافسين جدد مما قد يؤدي إلى فقدان ميزة الموقع الجغرافي الذي جعل مصر تظن أن منتجات السودان هي مدخلات مصانع مصر، وأن الشعب السوداني مجرد عمالة في جنوب الوادي.
أما في الجانب السياسي، فالحديث الذي أدلى به حمدوك داخل مصر، وباستضافة كبريات وكالات الإعلام المصرية، كان مفاجأة لحكومة مصر، إذ قال حمدوك “سوف أتحدث اليوم عن بعض القضايا المسكوت عنها في العلاقة بين البلدين”. وقد كانت من ضمنها وأكثرها إيلامًا للحكومة المصرية قضية حلايب، تلك الأرض السودانية التي استولت عليها مصر عنوة بعد حادث محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك على الأراضي الإثيوبية. فقد شعرت مصر أن هذا القادم الجديد ليس له سقف يحده عندما يكون الأمر متعلقًا بالقضايا الوطنية. فكيف يجرؤ حاكم من جنوب الوادي على الحديث بصلابة في عقر الأراضي المصرية، وهي التي اعتادت على خفض الجناح والمواقف اللينة للحكام السودانيين منذ الاستقلال في التعامل مع الحكام المصريين، حتى في القضايا التي تمس وجود السودان كدولة ذات سيادة على أراضيها؟
مصر كانت وما زالت تلعب دور الأخ الأكبر في التعامل مع الحكام السودانيين، وقد شجعها على ذلك، إضافة إلى أسباب أخرى، قصر قامة الحكام السودانيين الذين يشعرون بالدونية أمام الزعماء المصريين. وكانت آخرها التحية العسكرية التي تفضل بها، بدون وجه حق، الفريق البرهان رئيس مجلس السيادة على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
إن قدرة د. حمدوك في التعبير بصراحة عن مطالب بلاده وعلاقته بالمؤسسات الإقليمية والدولية جعلت مصر تتحرك للقيام بالدور الذي اعتادت على تمثيله، دور الأخ الأكبر. فهي تبطن القبح وتظهر النصح، فأوعزت إلى البرهان بضرورة التخلص من د. حمدوك ضمن الخطة (ب) بعد فشل الخطة (أ)، فكان لها ما أرادت. فقد قام البرهان بانقلاب على حمدوك وأودعه السجن، ثم تراجع عن ذلك بسبب المد الثوري، لكن ما كان لحمدوك أبدًا أن يرضى بالاستمرار في هذا الوضع، وما هي إلا أسابيع حتى قدم استقالته إلى الشعب، تاركًا المنصب فارغًا لخفافيش الظلام.
أما الدعم السريع فقوته معلومة ومحسوبة عند مصر، يعلم تفاصيلها تجار العدة من المصريين الذين يتسللون عبر الأزقة لجمع المعلومات عن أكثر المواقع العسكرية حساسية. فخطة مصر أن لا يدمج الدعم السريع بهذا العدد وبهذه القدرات العسكرية الضاربة إلى الجيش السوداني، خاصة بعد أن عمل الدعم السريع على إفشال الخطة (ب) بوقوفه ضد إعادة تعيين رموز المؤتمر الوطني في مؤسسات الدولة. فإن دمج الدعم السريع صاحب القدرات القتالية العالية والأسلحة المتطورة للغاية سيشكل خطرًا على مصر في حال نشوب أي نزاعات عسكرية بسبب الحدود، أو يؤدي إلى أن تطمع بعض الدول في المحيط الإقليمي بأن يدخل السودان معها في تحالف عسكري، مما يؤدي بدوره إلى إضعاف النفوذ العسكري لمصر في القارة الأفريقية.
لم ينتبه البرهان لهذه الخطط الماكرة للثعلب المصري فهو كان فرحًا بالزعامة التي بشره بضمان استمراريتها هذا الفرعون. وبذلك فقد السودان، بسبب التقديرات الخاطئة والارتهان إلى المطامع المصرية التقليدية، ثروة عسكرية لا توجد في المحيط الإقليمي قوامها أسلحة متطورة وجنود شجعان. فما زال الأمل معقودًا على عقلاء السياسة السودانية وشرفاء القوات المسلحة بالخدمة والمتقاعدين أن يضعوا حدًا لهذه المهزلة بإيقاف الحرب، فما زالت هناك فرصة بأن يكون الدعم السريع سندًا قويًا لقوات الشعب المسلحة وإيقاظ الجارة الظالمة وإطفاء شبق الطامحين إلى الحكم على جثث الشعب السوداني من أعوان النظام السابق.
فالذين قضوا نحبهم من أبناء هذا الشعب في هذه الحرب لا يعودون، فيجب أن نوقف مزيدًا من إراقة الدماء حفاظًا على حياة الأحياء منهم وصونًا لكرامتهم من الفقر والعوز، فما دُمِّر من مبانٍ ومصانع يستطيع أبناء الشعب بنيانه بصورة أفضل مما كان. فقد سئم الشعب السوداني هذه الحرب وسئم مشعليها والداعين لاستمرارها…
#لا للحـرب _نعم للسلام