منذ عقود يخوض الشعب السوداني معركة طويلة ضد أنظمة الإستبداد المتعاقبة ،التي أختبأت خلف شعارات الدين تارة ، والعسكر تارة ، والإنقلابات التصحيحية تارة ثالثة ،لكن الدرس الأهم الذي بدأ يتشكل بعد ثورة ديسمبر المجيدة هو أن الإشتباك مع الطغيان لا يكفي أن يكون على الأطراف ، بل أن يُنقل إلى قلب حواضن الطُغاة .
في تاريخ الشعوب لم تكن المعركة مع الإستبداد يوماً مجرد صِدام مباشر مع السلطة في أعلى الهرم ، بل كثيراً ما أتخذت شكلاً أعمق وأخطر ، صراعاً مع البيئة التي تُنتجه وتُغذيه وتحميه ، فليس الطغيان وليد الفرد وحده او اللحظة ، بل هو نتاج شبكة من المصالح ، والثقافات ، والهياكل التي تشكل حُضن الإستبداد والطغيان ، ومن هنا تبرز فكرة إستراتيجية طالما أثبتت فعاليتها عبر التاريخ ، وهي نقل المعركة إلى حواضن الإستبداد .
فمنذ أن أطلقت الحركة الإسلامية الطلقة الأولى في عناصر قوات الدعم السريع في المدينة الرياضية في أبريل 2023 م ، بات من المؤكد أن المعركة لا تُخاض فقط في ميادين القتال التقليدية ، بل تتوسع يوماً بعد يوم لتشمل حواضن إجتماعية وسياسية وثقافية ، وقد أستخدم هذه النظرية جيش الإخوان التي جوهرها نقل المعركة إلى حواضن الدعم السريع لكسر شوكتهِ وإبادة مجتمعات دارفور وكردفان او عبر السيطرة العسكرية عن طريق متحرك الصياد الذي أصبح أثراً بعد عين ، حينها كان يسعى الدعم السريع لتلبية منابر التفاوض لتقليل المخاطر والمهددات التي تحيط بالسودانيين على حد سواء جراء إستمرار الحرب ، وتارة يسعى للإنتصار للأخلاق والقيم في الحرب أهمها على الإطلاق عدم تصفية الأسرى و عدم القتل الممنهج نتاج اللون او العرق او الجغرافية وهذا ما جعله في حال افضل في مستقبل النادي السياسي السوداني الجديد .
إن نقل المعركة إلى الشمال يأتي إلى إرتباطها الوثيق بأطراف الحكم الشمولي المستبد ، وساهم بعض أبنائها في قيادة التنظيمات السياسية بطريقة او بأخرى في تأييد السلطة المركزية ، وبالتالي التركيز على المعارك في الأطراف والمناطق المتضررة فقط من الحرب لن يؤدي إلى التغيير الجذري المنشود ، فطالما بقيت حواضن الإستبداد بمنأى عن المواجهة ، فإن مراكز القوة ستعيد إنتاج نفسها بسهولة ، ومن هنا فإن نقل المعركة إلى هذه الحواضن لا يعني إستخدام العنف والانتهاكات ضد المجتمع بل المقصود هنا هو كسر الحصانة الإجتماعية التي كانت تتحدى وتعتقد نفسها مقدسة او فوق النقد او الجِراح مع فضح الإمتيازات الاقتصادية التي تتمتع بها هذه الحواضن على حساب متبقي السودانيين .
إن نقل المعركة إلى الشمالية هو ضرورة تاريخية لتفكيك بنية الظلم و الإستبداد التي تحتمي بها ، وتفكيك الكتلة الاقتصادية التي كانت تتآمر على مصلحة البلاد لصالح دولة الأقليات ، فالأنظمة الإستبدادية لا تسقط بسقوط الحاكم وحده ، بل بزوال البيئة التي تنتجه ، فالحاكم قد يكون مجرد عنوان بينما الجوهر يكمن في منظومة فكرية وقانونية واجتماعية ترعاه .
إن المعركة التي لا تصل داخل عمق الشمال تبقى على الهامش تجابه ظل الطغيان لا حقيقته ، إن دروس التاريخ واضحة من يسقطون الطغاة قد ينجحون في ساعة ، لكن من يهدمون حواضن الإستبداد هم وحدهم من يغيرون مصير أمة ، إن هذه المعركة هي نهاية النخب المتحالفة والمؤسسات القمعية ، والأنظمة البيروقراطية ، والطبقات المستفيدة ، او حتى الفضاءات الثقافية التي تشرعن الطغيان ، حينها تتبدد مشروعات النخبة من موقع الفاعلية والتخطيط إلى هامش المشهد وعندئذ تقبل الدخول في صفقات او تسويات دون ضمانات حقيقية وتتحول إلى الإستسلام ناهيك عن المقاومة الزائفة .