بقلم : محمد كاكا
في العام 1832، كتب ألكسيس دو توكفيل عن الديمقراطية الأمريكية قائلاً: “الخطر الحقيقي ليس في استبداد الحاكم، بل في استبداد الأغلبية حين تُخضع صوت الأقلية للصمت المطبق” هذا القول، وإن قيل في سياق مختلف، يكاد ينطبق نصاً وروحاً على واقعنا الراهن، حيث لا تزال النخب تُعيد إنتاج أزماتها، مدفوعة بخطاب سطحي يُعيد تزييف الوعي ويطمس جوهر الصراع..
اليوم، ونحن في قلب واحدة من أعقد مراحلنا التاريخية، تطل علينا قوى “الحرية والتغيير” بخطاب سياسي يُجافي الحقائق ويُسَوّق لصيغة موازية بين الجيش والدعم السريع ٠
وكأن الأزمة السودانية خصومة بين جنرالين، هذا الخطاب، وإن بدا في ظاهره “حيادياً” إلا أنه يُخفي ما هو أعمق، محاولة تعمية الجذور البنيوية للصراع، وطمس مأساة الهامش، وتجميل وجه الدولة المركزية التي فشلت منذ استقلال 1956 في بناء مشروع وطني جامع..
إن جوهر الأزمة السودانية لا يكمن في موقع الجنرال حميدتي أو الجنرال البرهان في المعادلة السياسية، بل في سؤال ظل معلقاً منذ ولادة الجمهورية الأولى.. من يملك هذا البلد؟ ومن يُقصى منه..؟
منذ انقلاب الفريق عبود عام 1958، مروراً بنظام جعفر نميري، ثم حكومة الإنقاذ (1989–2019)، ظلت الدولة السودانية دولة نخبة مركزية، تحكمها تركيبة إثنية وجهوية ضيقة، وتُدار من خلال مؤسسات تم تصميمها لحماية الامتيازات التاريخية لا لتحقيق العدالة الاجتماعية، فالمؤسسة العسكرية نفسها لم تُبْنَ لتكون جيشاً وطنياً جامعاً، بل أُعيد تشكيلها مراراً لتكون أداة سيطرة على “الأطراف” لا شريكاً في بناء الوطن..
لقد استخدم الجيش، عبر عقود العنف الممنهج ضد المكونات الاجتماعية في الجنوب، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، ودارفور، مجازر كالضعين 1987، وطويلة 2003، وكجبار 2007، وجنوب كردفان 2011 ، و كُربيا و بئر مزّه 2003، لم تكن مجرد “تجاوزات فردية” بل كانت جزءاً من عقيدة أمنية ترى في الهامش تهديداً وجودياً، وكانت كل هذه الفظائع تُرتكب تحت غطاء الشرعية الوطنية..
و سردية الاحزاب على أن الجيش و إن بدأ مؤدلجاً فهو المؤسسة العسكرية الشرعية في البلاد، و ما تلاه من معارضات مسلحة و مجالس مطلبية، مجرد حالة مليشياوية..
فإن محاولة “قحت” تصوير الصراع الحالي على أنه مجرد “صراع سلطوي” بين “ميليشيا” وجيش نظامي، هو إعادة إنتاج لخطاب المركز، بل وتجميل لوجه النظام القديم، الذي لم يسقط في 2019 بل تحوّل في لبوس مدني جديد، واكب المتغيرات في المشهد الحالي٠
صحيح أن الدعم السريع ارتكب فظائع وانتهاكات مرفوضة ومدانة حتى من داعميه، لكن من الظلم…بل من التضليل السياسي، وضعه في كفة مع الجيش، الذي مارَس العنف كأداة حكم لعقود، وساهم في بناء الدولة على أساس عرقي طبقي غير عادل، فرقٌ شاسع بين من وُلد من رحم الظلم، ومن كان أداة ذلك الظلم لعقود..
ما يُراد لنا اليوم أن ننساه، هو أن معسكر القيادة العامة في أبريل 2019 لم يكن ضد نظام البشير فحسب، بل ضد منطق الدولة المركزية ومؤسساتها الإقصائية، وكان الشهداء الذين سقطوا هناك من كل السودان، لا من “الخرطوم وحدها” ولكن بعد أن سال الدم، عادت النخبة إلى غرف التفاوض المغلقة، تقايض الدم بالمناصب، وتستبدل العدالة باتفاقيات تُعيد إنتاج ذات المعادلة القديمة..
الخطاب السياسي الذي لا يُسمّي الأشياء بأسمائها، ولا يُواجه التاريخ بشجاعة، هو خطاب غير جدير بالثقة، وحين تُختزل الأزمة في جملة “صراع على السلطة” فذلك إنما يُخفي أن المعركة الحقيقية هي معركة هوية وعدالة وتوزيع سلطة وثروة، لا معركة جنرالين في سباق على كرسي..
بلدنا اليوم لا يحتاج إلى مصالحة نخبوية في غرف مغلقة، بل إلى مصارحة وطنية تُعيد تعريف الدولة، وتُعيد بناء الجيش، وتُعيد توزيع السلطة على أسس المواطنة، و كتابة عقد إجتماعي يكون حجراً لتأسيس الجمهورية الثانية..
أبو_الرتينة
يونيو 2025