منعم سليمان
في مشهدٍ لا يخلو من رخصٍ فكري وسقوطٍ أخلاقي، خرج علينا الصحفي الكوز عثمان ميرغني، وهو أكثر من لوّثت أقلامهم المأجورة صفحات الصحافة السودانية، بعبارةٍ ركيكة في ظاهرها، خبيثة في باطنها، حين زجّ باسم الدكتور عبد الله حمدوك في مقامٍ لا يليق إلا بأوهامه المريضة ونزعته الجهوية الكريهة، مهنئًا إياه بـ “استعادة الجيش لمدينة الدبيبات” – مسقط رأسه – في محاولة سافرة لتصويره وكأنه يحزن أو يفرح لهزيمة أو انتصار طرفٍ على آخر في هذا الحربٍ اللعينة التي لم يشعل نارها، ولم يبارك سعيرها.
أيُّ حقارة وسفالة أخلاقية وفكرية هذه؟ وأيُّ تبلّدٍ حسيّ وإنساني هذا؟ ويا لسخرية القدر! أن يبلغ المرء من الدناءة درجةً أن يغمز من قناة رجلٍ وقف منذ اليوم الأول للحرب، شاهِرًا شعار (لا للحرب)، داعيًا إلى وقف نزيف الدم السوداني الواحد، سواء كان في الدبة أو الدبيبات، عاملاً دون كللٍ لإيقافها، وقد ظلّ منذ اندلاع الحرب يقف على ذات المسافة من الجراح كلها، يرفع صوته بالحق، ويجتهد في طرق أبواب السلام. لم يكن يومًا – ولن يكون – من أولئك الذين يرقصون على أنقاض المدن، أو يوزّعون التهاني على جماجم الأبرياء، وهو الذي لم يُعرف عنه سوى التعقل والاتزان، والمسؤولية، والصدق.
فهل من ضيرٍ على رجلٍ أصيلٍ مثله أن تنتمي جذوره إلى مدينة ما؟ أم أنك، أيها الكوز اللئيم، تريد أن تعاقب الناس على جغرافيتهم، كما عُوقب الوطن بوجودك وقومك وأمثالك؟
لقد حاولت، أيها الكوز الوصولي الأجير، أن تطعن رجلاً أطهر منك، أشرف منك، وأقوم منك خُلقًا وأخلاقًا وسيرة، فكان نصيبك أن كشفت عورتك الفكرية وسوءتك الأدبية. فإن كنت تظن أن لمزك لحمدوك سينال منه، فدعني أطمئنك: أنت أتفه من أن تخدش مقامه، فهو قامة وطنية تسمو فوق تفاهاتك، وأنت قزم، وقرد من “قرود الموز” التي تتقافز على موائد الجيف وأنقاض الضمائر المهترئة!
إن الكوز عثمان ميرغني، ومن على شاكلته من الأرزقية والمتكسبين بأقلامهم، لا يرون في السودان سوى فسيفساء من المناطق والقبائل، يحكمون عليها من أبراجٍ جهويةٍ متهالكة، تنهار كلما هبّت نسمة وعي. وهو إذ يحاول أن يشيطن الدكتور حمدوك، فإنه لا يفضح إلا ضحالة منطقه، وثِقَل نفسه، وسقم قلبه، وسوء طويّته. ثم أيُّ منطقٍ سقيمٍ ذاك، يا عثمان، الذي أوحى إليك أن انتماء المرء إلى منطقةٍ ما يجعل من سقوطها أو “تحريرها” مناسبةً شخصيةً له؟ ولكنك، بطبعك الشخصي، وتكوينك الفكري ككوزٍ حقير وضيق، صاحب نزعةٍ طينية لزجة، لا ترى في الوطن إلا مربعاتٍ قبلية، وأوهامًا مناطقية، وشظايا من خارطةٍ كـ “خارطة طريق البرهان”، التي لا يرى فيها نقطة أبعد من حدود طمعه في السلطة!
أما حمدوك، فيكفيه شرفُ الموقف، ونقاءُ السيرة، وسدادُ البصيرة. لم يُعرف له انحيازٌ إلا للشعب، ولا ولاءٌ إلا للوطن، ولا هاجسٌ إلا لصون الدماء وحفظ الكرامة؛ تلك الكرامة التي افتقدها عثمان وقومه، سلمًا وحربًا! فمن أرفع قامةً واستقامةً: الحشرة أم الشجرة؟ وهل هو الذي يقف ضد القتل والحرب، أم ذاك الذي اختار أن يكون بوقاً لطرفٍ من أطرافها، يختبئ خلف جدار السخرية السمجة، ظانًّا أن غمز وخبث الإشارة يسعفانه حين تعجزه فصاحة ووضوح العبارة؟!
إن الدكتور عبد الله حمدوك هو صوتُ الحكمة في زمن الجنون، ورمزُ الانتقال الديمقراطي في زمن ديكتاتورية العسكر، وعنوانُ الدولة المدنية في عصر المليشيات وتجار الدين، وهو مشروعُ وطنٍ في وجه بؤس اللصوص، بائعي الكلمة والذمم وسماسرة الحروب.
أما أنت، يا عثمان، فصدىً أجوفُ لكل مرحلةٍ فاسدة، وكلماتك لا تليق إلا بحواف الأرشيف المتعفن للأنظمة المتعفنة، التي كنت، وما زلت، عبدًا مطيعًا لها، تتعامل مع القضايا الوطنية كما يتعامل النبّاش مع القبور: لا يهمه إلا ما يمكن سرقته من بين الرماد والعظام. فما الذي ينتظره الناس من رجلٍ مثلك احترف التلوّن، وتخصّص في الزيف وجلد الحقيقة بحبرٍ مدفوع الأجر؟!