بدا المشهد السوداني اليوم السبت وهو متخم بتظاهرات الشارع ، وخروج المواطنين في الخرطوم ومدن أخري في متفرقة في إحتجاجات عارمة ، بدا و كأنه لوحة سيريالية عصية علي التفسير ، بتناقضات شعاراتها و تعدد محتوي لافتاتها ، وتنافر التيارات التي غبرت أقدامها في سبيل الوطن و الحرية ، و صبت كل إحتجاجات و تظاهرات السبت في إتجاه واحد ، وتشير إلي أن غليان الرفض الشعبي للحكومة الحالية و لتركيبة السلطة الحاكمة و قد بلغ ذلك ذروته و أعلي شأوه ،فقد خرج الجميع ضد الحكم الحالي هناك من يريد إهالة التراب عليه وهم الأغلبية الساحقة ، و يوجد من يريد إصلاح و إنقاذ ما يمكن إنقاذه من السفينة الغارقة ، لذا تفرق الشارع إلي عدة إتجاهات ، حيث لم تعد لحكومة قحت من يناصرها بالمطلق الكامل أو يذود عن حياضها المهتريء ، وهي تقف عارية في مهب ريح التغيير ، راجفة .. مرتعدة .. وحيدة …. ضائعة … منفردة ، كما قال الشاعر عبد الرحيم أو ذكري :
أيها الراحل في الليل وحيداً .. ضائعاً … منفردا
إنتظرني فأنا أرحل في الليل وحيداً .. ضائعاً .. منفردا .
ليس هناك من شك أن االشارع الذي كانت تتباهي به الحرية والتغيير قبل أشهر ، قد تخلخل و رجع إلي طبيعته شارعاً يعبّر عن تطلعات الشعب بآماله وألامه و مواقفه لم يعد أهواء ناشطي و أحزاب الضرورة واللحظة التي أتت في غفلة من الزمن و أعتلت سدة سلطة لا تستحقها ، و يتضح جلياً أن الإبداع السياسي في صناعة و صياغة شارع جديد ، ليس وليد صدفة أو خبط عشواء ، لم تصنعه أو تدعيه أي جهة وحدها ، لقد أنتج الواقع شارعه ، تراكم حنقه وغضبه من كل صنوف الضيق و المسغبة والجوع ، وتوالدت أجزاء هذا الشارع من حقائق الوهن والضعف والخذلان الذي إتسم به أداء الحكومة و توابعها و حاضنتها السياسية الذابلة كما تذبل نبتة مسمومة في الصقيع .. ونهض الشارع الجديد من حافة الهاوية التي سِيقت إليها البلاد وهي تنحدر سياسياً و إقتصادياً و إجتماعياً و أمنيا ، حتي صارت بلادنا الشامخة الحرة مرتعاً لخنازير الخارج وملعباً للذئاب والثعالب وموطئ لنعال الأجنبي الصفيق .. وتكاد القوي الخارجية تطبق بأظافرها وحوافرها علي لحم البلاد و هي في ظلام (قحت) الدامس ، كأن عفريتاً كثيف الدنس نفث خبثه في أوصالها ، وما هذه النفثة الخبيثة سوي الحاضنة السياسية وحكومتها البائسة التي باعت البلاد لأربابها و أسيادها في الخارج ، ووقفت تتفرج علي جسد البلاد يحترق في نارها المجوسية الحرام .
لقد تغير الشارع ، وفق المعطيات الجديدة ، لم تعد جهة ما تحتكره أو تدعيه ، فهو بالأمس لم يكن شارعاً متحداً و واحدا ، خرجت أطيافه السياسية من كل فج ، الكل ينشد ما يريد ، الأكثرية الغالبة تريد إسقاط الحكومة و ذهابها ، ومؤيدو الحكومة في خروجهم كانو مع ذهولهم يريدون الفرار أو الردي … وهما أمران أحلاهما مُرُ … فالخيارات كانت امامهم وستظل ضئيلة ، فهم يتناقصون في الشارع و يتبخرون كما الفقاقيع ، ليس أمامهم هم وحكومتهم إلا الرحيل يحملون علي ظهورهم خيباتهم وف شلهم وعجزهم علي اكتفهم اوزار النموذج الفضائحي العميل الذي قدموه في حكم البلاد ، لقد باعت حكومتهم كل شيء في السودان وحاولت أن تبيع كرامته و إستقلاله و تجعله تحت الوصاية الدولية كما فعل رئيس الوزراء و جوقته الفاسدة التي قبضت اموالاً اوروبية وامريكية لتمرير خطة البعثة الاممية و قانون الكونغرس الامريكي حول التحول الديمقراطي ، و عملية تغيير القوانين والتشريعات و كشف عورات وطن ذا سِترٍ و مستور ..
فضح الشارع اليوم ، أكذوبة اليسار الرقطاء وحجم البالوني المنتفخ ووزن الريشة او وزن الذبابة الذي عليه ، لم يكن اعضاء الحزب الشيوعي يتصورون في غمرة الهم الذي يعيشونه أن الشارع الذي خدعوه سينقلب عليهم سريعاً ويتخذ فعلاً رمزياً بحرق علم الحزب بنار الشعب بعد أن أحرقت مكائد الشيوعيين و فسادهم و فجورهم و مؤامراتهم و خبثهم أكباد السودانيين وهم يستهدفون دينهم و عقيدتهم وجيشهم الباسل و كبريائهم و ثوابتهم و عزة جباههم العالية في ذُري الجوزاء …
لقد لعب الحزب الشيوعي وبقية أحزاب اليسار بالنار ، ولقصر نظرهم ظنوا أن صمت الشعب سيطول و أنهم قهروه و جعلوه يتقبل نهجهم المدمر و خداعهم الهواء ، فسرعان ما إستبان الجميع ألاعيبهم ، و إستيقظ الشارع رافضاً حكومة الجوع والإفقار الممنهج ، والفساد الذي لم يعهده الناس من قبل ولا من بعد ، فاليوم له ما بعده لقد وعي الشباب الثائر الدرس ، وأفاقوا من لوثة الخداع ، لن يطول هذا الليل الكاذب ، ستهرب الي جحورها الآمنة مجموعات الناشطين العملاء ، و سيعود للسودان وجهه المشرق العزيز ، و سيختار السودانيون خياراتهم عبر النهج الديمقراطي السليم و سيلجأون لشرعية الصندوق الانتخابي ، وسيعرف كل حزب حجمه ، و سيذهب الزبد جفاء … و ما أكثر الزبد الطافح الآن ..