كما هو متوقع و بطريقة انتقال ناعمة ، أُزيحت قوي الحرية والتغيير من كابينة القيادة ومن واجهة المشهد ، و أُبعدت من منصتها كحاضنة سياسية للحكومة وركلت دونما رحمة خارج الدائرة، وتكونت منصة أخري لشركاء الحكم وفق معادلة ومحاصصة جديدة تضمن تفوق من يملكون القوة العسكرية ومن يحملون السلاح ، مقابل قوي سياسية كانت طرفاً في قوي اعلان الحرية و التغيير التي تفرقت أيدي سبأ وأقبل بعضهم علي بعض يتلاومون ، بقيام مجلس شركاء الفترة الانتقالية ،تبدأ مرحلة سياسية جديدة كانت طلائعها تلوح من فترة وتم الترتيب لها وأُنضجت علي نار هادئة ، بفعل قوي محلية واقليمية و تأييد دولي ، وذلك بعد أن تبين سوء الحشف والكيل خلال الفترة الماضية منذ ان وُضعت (قحت) في دائرة المسؤولية بسلطة مطلفة منذ عام ونيف ، فسجلت بجدارة أعلي معدلات الفشل والخيبات ، وصارت عبئاً ثقيلاً علي داعميها المحليين وفي الخارج ، وكان لابد من إعادة إنتاج شراكة الحكم بصيغة جديدة و العكوف علي تزيين وجه السلطة بمساحيق و( ميك أب ) مقبول .
لم يكن مستغرباً منذ فترة ليس بالقصيرة، بُعيد تكوين الحكومة في اغسطس 2019 ، وقيام بعض آليات ومؤسسات الحكم الثنائي بين المكون العسكري و المدني ، أن القوي اليسارية المنظمة (الحزب الشيوعي او احزاب البعث والقوميين وزمرة الجمهوريين من اتباع محمود محمد طه وثلة اليسار الامريكي من الليبراليين الجدد) ، ستعصف بهم عاصفة سواء كانوا فرادي وأحاداً أو مجتمعين ، و تتحمل هذه الاحزاب سبب فشل حكومة الفترة الانتقالية وضعف أداء رئيسها ووزرائها ، نتيجة للتكالب علي السلطة و التسابق لملء شواغرها ووزاراتها بالحزبيين الملتزمين بدلاً عن الكفاءات الوطنية المقتدر والفنيين المستقلين ، بالاضافة الي عملية التقطيع والتمزيق والتدمير الممنهج للخدمة المدنية والقيم والاخلاق السودانية الاصيلة وسوء إستخدام إدوات السلطة والفساد الذي ضرب باطنابه ، وغياب البرامج و السياسات وخلو الوفاض من الارادة الوطنية الصادقة، والفشل الذريع في انجاز منجز يسهم في تجاوز أزمات البلاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الحادة .
بدأ الهمس يعلو ليصبح جهيراً في الدوائر الداعمة للحرية والتغيير ، انتقاداً و ذماً للحكومة ، ثم صار تذمراً ورفضاً في الشارع ، وزاد علي ذلك تضجر بائن في عواصم عربية وغربية ظلت ممسكة بخيوط اللعبة منذ ذهاب غريمهم النظام السابق ، فقد فجعت هذه العواصم في اداء الحكومة وهزالها في ميزان الفعل السياسي الجاد ، وغياب برامجها الاصلاحية وعجزها عن قيادة البلاد الي بر آمن ، فضلاً عن وجود تفكير اطل برأسه من فترة لطرح نموذج بديل لترتيب وضع السلطة وصناعة واقعها المختلف ، لتكون لدي الطرف الأقوي والاقدر والاكثر سهولة في التعامل معه من الخارج والثقة في قدرته علي ادارة الدفة ، وذلك بالتشارك مع رديف مدني فاقد للخصوبة السياسية .
ولم يكن خافياً ان مكونات الفترة الانتقالية وخاصة المكون العسكري ومناصريه الخارجيين ، قد سئموا من العبث السياسي لليسار وخاصة الحزب الشيوعي وغلاة المتطرفين من الأحزاب الميكروبية الأخري التي قفزت بقدرة قادر إلي حلق وخياشيم السلطة ، وبدأت في تطبيق برامجها و نفثت سمومها واحقادها وطفت الي السطح بكل غبائها الموروث وخبثها الملوث بحمي انتقامية راعدة ، وكان طبيعياً أن تنتهي إلي ما انتهت إليه و أفضت بالبلاد الي هذا الحال المأزوم ، حيث لم تشهدفي تاريخها ابداً ، أزمة اقتصادية شديدة الوطأة علي المواطنين ومهلكة ومدمرة لكل مقدرات البلاد ومحبطة لكل الآمال ولم تعش البلاد أو مرت بها حالة من القطيعة السياسية و الأفق المسدود أو تعاني وباء الاحتقان المميت كما تبدو الصورة الراهنة وقد أقترب آوان الانفجار الشعبي والجماهيري بعد ان بلغت الروح الحلقوم .
الغريب ان الوعي بخطورة ما تسير اليه البلاد ، والي أين تقوده حكومة ( قحت ) ؟ قد با هماً للشريك الآخر ( المكون العسكري ) ، وجال في عقول بعض المستبصرين نوعاً ما من الشركاء المدنيين ، وتلاقت رغبات العسكريين وقليل من المدنيين مع مرادات الخارج ، واختلط كل هذا المزيج بحقائق الواقع الماثلة التي تشير إلي قُرب السقوط في قعر الهاوية ، وظلت الطنجرة تغلي في ذات الوقت الذي قفز فيه الحزب الشيوعي بغبائه المعروف من السفينة الغارقة ، ظاناً انه سيلتمس طريق المعارضة مبقياً علي عناصره داخل السلطة ليعيش بقلبين في جوفه ، وإنتعشت قوي أخري داخل الحرية والتغيير بخروج الشيوعيين وإستعادت توزنها الداخلي وقررت التماهي مع العسكريين وإعادة ترتيب البيت السلطوي من الداخل ، فوُلد مجلس الشركاء الجديد وهو مغموس في روث التجربة الفاشلة ، جاء المجلس كما هو متوقع ، خالياً من أية بارقة أمل ، ولن يضف شيئاً يؤبه له في ميزان الفعل الناجع ، ولن تكون تجربته خيراً من سابقتها لعاملين مهمين هماً :ـ
أولاً : نهج المحاصصات وإقتسام المواقع دون أن تكون هناك خبرة سياسية تستطيع تحويل مهام الفترة الانتقالية الي مُنتج برامجي فعال ، ومصنع للمبادرات السياسية الفاعلة ، كان سبباً في ضعف الاداء لتركيبة الحكم والتقاعس عن حل المشكلات التي دهمت البلاد ، ستتكرر التجربة ذاتها ولم يبلغ المجلس مبتغاه ، فتكوين المجلس الجديد للشركاء إن لم يتحول الي منصة وطنية تنطلق منها افكار ومبادرات وتصدر موجهات جامعةلتجاوز الاختلال والعلل الراهنة ويساعد الجهاز التنفيذي في تأدية مهامه ، سيكون في مؤداه الاخير مجرد عملية توزيع أنصبة وقسمة سلطة للتقرير بشأن الفترة الانتقالية دون أن تتحدد بشكل دقيق كل مطلوباتها وكيفية إنزالها ، مع شكوك حول قدرة بعض أعضاء المجلس وكفاءتهم وخبراتهم في ابتكار الحلول والسياسات وتوليدها وتمثيل القدوة السياسية والالهام الوطني واكتساب ثقة عامة الشعب .
ثانياً : بدأ التشاكس منذ اليوم الاول لتأسيس المجلس بإعتراض وتحفظات رئيس الوزراء ، وبيان السيدة عائشة موسي عضو المجلس السيادي ثم بيان مجلس الوزراء مساء الجمعة ، و وهذا الاعتراض سببه الرئيس أن بعض القوي السياسية اليسارية شعرت بدنو اجل عهد السيطرة علي الحكومة والقرار السياسي وانتقال مركز السلطة الي الجهات ذات الشوكة ، ومعلوم أن الاوضاع كانت تقتضي تغييراً شاملاً في الجهاز التنفيذي ، و يمثل رئيس الوزراء العطب الأكبر في ماكينة الحكومة ، لضعف قدراته القيادية وخبو وتضاؤل تأييده الداخلي ، وقلة حيلته في إدارة شؤون الحكم ، وسوء تقديراته السياسية وطبيعة شخصيته التي لا يمكن ان تقود بلداً بحجم السودان ومشكلاته الي ذري المطمح ..ولا يستطيع رئيس وزراء بهذه الصفات ووقوعه تحت تأثير حاضنته السابقة أن يحقق المرجو منه أو يقود حكومة ذات أداء جيد .
ما يهمنا ان ترقيع السلطة بتدوير وجوهها سواء كانت في المجلس الجديد أو الجهاز التنفيذي ، ستمضي الي فشل مماثل لما فعلته الشراكة في الفترة الماضية ، بل ستكون حالة الفشل والاخفاق اكبر واخطر ، ستظل أزمات البلاد تتفاقم دون حل والبلاد تقف عند حافة الهاوية ، وعندها سترتفع العقيرة والهتاف حتماً بأن عهد الانقاذ كان افضل ، ربما لحظتها يتردد صدي صوت عمرو بن عمرو بن عداس مخاطباً ذات الموقف : “الصيف ضيعت اللبن” ..!