رغم أن الناطق الرسمي باسم الجيش السوداني كان قد اعلن فى مطلع الإسبوع الأخير من ديسمبر 2011 عن مقتل زعيم حركة العدل والمساواة الدكتور خليل ابراهيم.. عقب تعرض موكبه لهجوم صاروخي بساعات.. إلا أن العالم انتظر تأكيد ذلك من شقيقه الدكتور جبريل ابراهيم..الذي فعل ذلك باقتضاب.. ولم يسهب في الأمر.. بعد ذلك بأيام ثلاثة اتصلت بالدكتور جبريل معزيا.. كان فى لندن يومها.. إن لم تخن الذاكرة.. ايضا لم تتجاوز المحادثة واجبات العزاء.. ولم يكن لدي ما اقوله غير أن الراحل خسارة للوطن وأن الذي يجري حرب الخاسر فيها الجميع.. الذي أذكره أنه لم يتحدث عن الانتقام.. ولكنه تحدث عن المحاسبة..!
بعد ذلك بسنوات التقيت الدكتور جبريل.. ولأول مرة.. على هامش إحدى دورات مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة.. بعد التحية.. دلفنا سريعا الى المشهد السياسي.. يومها كان ما يشغل الساحة السياسية السودانية.. موضوع توحيد المنابر.. من الدوحة الى اديس ابابا.. أو توحيد الملفات.. من دارفور الى المنطقتين.. قلت له إن النظام يستثمر فى تبايناتكم.. ويطيل أمد البحث عن الحلول.. الذى هو إطالة لعمر النظام.. بالنسبة لجبريل كما أذكر.. لم تكن القضية فى توحيد المنابر..ولا فى إستثمار النظام لخلافات المعارضة.. بل ولا حتى محاولات النظام في تعميق تلك الخلافات.. كما قال.. بل كانت في مدى جدية النظام في التعاطي مع مخرجات.. أي منبر.. أيا كان موقع ذلك المنبر ووصفه.. ثم في اولئك.. والحديث لجبريل.. الذين يصرون على الرهان على نظام ميئوس من جديته.. ثم.. وجرت مياه كثيرة تحت الجسر..سقط النظام.. توحدت المنابر.. وجبريل فى الخرطوم.!
غض النظر عن الثقل الذي يمثله الدكتور جبريل ابراهيم.. و بتجاوز موقعه داخل منظومة الجبهة الثورية.. وقد وصل الخرطوم ضمن العشرات من قيادات تلك المنظومة.. ولا بحجم نشاط حركته وتأثيرها فى مسار الأحداث.. منذ اندلاع العمل المسلح فى دارفور.. ورغم أن الدكتور جبريل ابراهيم.. يظل عمليا واحدا من أقل القادة تواجدا فى مسارح العمليات.. إلا أن الرجل.. ذا الصبغة الإسلامية وذا الخلفية الإسلامية و ذا التوجه الإسلامي.. فظروف و ملابسات نشأة حركة العدل والمساواة التى يقودها جبريل اليوم معروفة للجميع.. بل وتوجهاته الشخصية معروفة هي الأخرى ايضا.. إذن.. فجبريل بمواصفاته تلك قد هبط على مسرح أبرز ملامحه معاداة الإسلاميين.. بل يظل هذا الموقف من الإسلاميين هو الأمر الوحيد المجمع عليه.. والمتفق حوله من الجميع.. وسط خلافات تضرب الجميع وتفرق المواقف وتمايز الصفوف.. ولكن الدكتور جبريل ابراهيم الإسلامي.. يقف اليوم كحقيقة لا تخطئها العين.. فى قلب هذا الزخم المعادي..!
و ربما لا ينتبه الجميع.. أن لهذه الحقيقة دلالاتها المهمة بل والحاسمة فى هذه المرحلة من التفاعل السياسي فى المشهد السودانى.. فوجود إسلامي في المنظومة التي تدير سودان ما بعد الثورة.. تبعث برسالة مهمة مفادها.. أن الصرع السياسي في السودان ليس صراعا أيديولوجيا.. ولا صراعا فكريا.. الحقيقة أن وجود جبريل ابراهيم يحرر الصراع من ثنائيته الى ساحة أخرى.. أهم ما فيها تكريس مبدأ قبول الآخر.. ربما تكون هذه هي المقدمة الحقيقية لمسألة العدالة الإنتقالية.. وهذا مبحث نعود اليه لاحقا.. إذن.. المشهد يقول الآن إن التصنيف السياسي ليس قاعدة مطلقة للحكم على.. من مع و من ضد.. إذن ايضا.. وجود جبريل وحركته بتاريخها الطويل في الصراع ضد النظام البائد.. يحرر الصراع من شرنقة الآيديولوجيا.. الي سعة المصالح العليا للوطن..!
والأمر كذلك.. فأمام الدكتور جبريل ابراهيم فرصة تاريخية ليمثل المعادل الموضوعي في المشهد السياسي السوداني.. فهل ينجح فى تحرير الصراع..؟