20/12/2025 خالد كودي، نيروبي
في لحظات التأسيس، لا يكفي أن نرفع شعار “وطن جديد”، ولا أن نكرّر مفردات الثورة كما تُردَّد التعاويذ. في مثل هذه اللحظات، يصبح السؤال الحاسم: أي دولة نريد؟ وبأي أسس؟ ولصالح من؟
وما لم تُجب القيادات السياسية عن هذه الأسئلة بوضوح وشجاعة، فإنها—مهما حسنت نواياها—تتحوّل إلى عائق تاريخي، لا إلى أداة تغيير.
ما جرى داخل حزب المؤتمر السوداني في ديسمبر 2025 ليس حدثًا تنظيميًا داخليًا معزولًا، بل علامة سياسية كاشفة. ففي الخامس عشر من ديسمبر، انحازت مجموعة من القيادات والقواعد المؤثرة داخل الحزب إلى تحالف السودان التأسيسي (تأسيس)، ووقّعت على ميثاقه ودستوره الانتقالي، إدراكًا منها لطبيعة اللحظة التاريخية، واستحالة الاستمرار في الدوران داخل الحلقة القديمة للسياسة السودانية.
هذا الانحياز لم يكن نزوة فردية، ولا “انتحالًا لاسم الحزب” كما ادّعت القيادة وسوقت، بل قرارًا سياسيًا واعيًا اتخذته قيادات وقواعد قرأت الواقع بعيون مفتوحة، وقرّرت الانحياز لمشروع يواجه جذور الأزمة، لا أعراضها.
قيادة تخاف التأسيس… فتلوذ بالفصل!
بدل أن تواجه قيادة حزب المؤتمر السوداني هذا الانقسام سياسيًا وفكريًا، لجأت إلى أضعف الأدوات وأفقرها أخلاقيًا: الفصل الإداري السريع، دون محاكمات تنظيمية عادلة ومعلن، ودون سماع، ودون نقاش سياسي مفتوح.
وهو سلوك يكشف ذهنية محافظة متكلّسة، تخشى القطيعة، وتخاف من الأسئلة الكبيرة، وتفضّل حماية الشكل التنظيمي على مواجهة الحقيقة التاريخية
الأكثر تناقضًا أن القيادة نفسها أقرت—ضمنيًا—بأن المنضمين إلى تحالف تأسيس خالفوا الدستور، لكنها لم تقدّمهم إلى محاكمات تنظيمية كما يقتضي أي التزام ديمقراطي حقيقي. ما جرى لم يكن دفاعًا عن المؤسسية، بل استخدامًا انتقائيًا للمؤسسية لقمع موقف سياسي مختلف.
وهنا لا يعود السؤال: من خالف اللوائح؟
بل: من خان اللحظة؟
لماذا انحاز هؤلاء إلى تحالف تأسيس؟
انحياز هذه القيادات لم يأتِ من فراغ، بل استند إلى ميثاق تحالف تأسيس ودستوره الانتقالي ومبادئه الأساسية، التي تمثّل—للمرة الأولى بوضوح—مشروعًا تأسيسيًا يواجه جذور الأزمة السودانية، ومن بينها.
– العلمانية بوصفها شرط المواطنة الدولة العادلة، لا ترفًا فكريًا
– اللا مركزية الحقيقية وتفكيك دولة المركز القهري
– العدالة التاريخية لا الاكتفاء بالعدالة الانتقالية المُخفّفة
– إعادة تعريف المواطنة على أساس المساواة لا الهوية
– تفكيك الدولة التي أنتجت الحرب بدل إدارتها
هذه المبادئ ليست شعارات قصوى، بل الحد الأدنى لمنع إعادة إنتاج الحرب. وهي بالضبط ما عجزت قيادات حزب المؤتمر السوداني عن تبنّيه، لأنها تتطلب شجاعة سياسية، واستعدادًا لدفع كلفة القطيعة مع الدولة القديمة، ومع الأوهام المريحة.
بيع الوهم باسم الثورة:
المشكلة الأساسية في قيادة حزب المؤتمر السوداني—كما في كثير من النخب السياسية السودانية—ليست في الخطاب الثوري، بل في تسويق ثورة بلا حلول. ثورة تُعيد إنتاج الأدوات نفسها التي فشلت:
تسويات بلا تأسيس،
مدنية بلا دولة،
ووعود بلا مشروع!
هذا الخطاب لا يواجه جذور الأزمة، بل يخدّر الجماهير، ويبيعها وهمًا بأن إعادة تدوير التجارب الفاشلة يمكن أن تقود إلى نتائج مختلفة. وهو وهم دحضه التاريخ مرارًا.
القواعد تتقدّم… والقيادات تتذمّر:
ما حدث داخل حزب المؤتمر السوداني ليس استثناءً. إنه نموذج كلاسيكي لما يحدث حين تتقدّم القواعد على قياداتها. فالقيادات التي أُتيحت لها الفرص التاريخية—كما أُتيحت لغيرها—لم تمتلك الرؤية ولا الشجاعة لاتخاذ المواقف الكبرى في اللحظات الفاصلة. وحين تحرّكت القواعد، لم تواجهها القيادة بالحجّة، بل بالعقوبة!
وهذا السلوك ليس جديدًا في تاريخ الأحزاب المحافظة. فكما قال أنطونيو غرامشي:
“الأزمة تكمن في أن القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد… وفي هذا الفراغ تظهر أشكال المرض”
عن إدراك اللحظات التاريخية وصناعة التاريخ:
لا يُصنع التاريخ داخل الأطر المنغلقة، ولا يُكتب بتواقيع الإجماع المريح، بل يتشكّل حين يملك بعض القادة القدرة على قراءة اللحظة بما هي عليه، لا كما ترغب التنظيمات في أن تكون. ففي اللحظات التأسيسية، لا يكون الخطر في الخطأ، بل في التردّد؛ ولا تكون الخيانة في الخروج على اللوائح، بل في العجز عن مغادرة الأفق القديم.
لم يكن نلسون مانديلا أسيرًا لإجماع حزبه حين قرّر الانتقال من خطاب المقاومة الأخلاقية إلى مشروع إعادة تأسيس الدولة الجنوب أفريقية على قاعدة المواطنة المتساوية. لقد واجه اعتراضات داخل المؤتمر الوطني الأفريقي، واتُّهم بالتفريط والتنازل، لكنه أدرك أن اللحظة التاريخية تتطلب تفكيك الدولة العنصرية لا إدارة صراعها، وأن المستقبل لا يُبنى بالانتقام بل بإعادة تعريف السياسة نفسها.
وبالمثل، لم يساوم توماس سانكارا على الأسئلة التأسيسية الكبرى: الدولة، السيادة، والعدالة الاجتماعية. لم ينتظر رضا النخب التقليدية ولا مباركة القوى الخارجية، بل انحاز إلى رؤية مستقبلية جذرية، أدركت أن التبعية الاقتصادية والثقافية امتداد للاستعمار، وأن بناء دولة جديدة يتطلب صدامًا واعيًا مع البنى القديمة، حتى لو دفع القائد ثمن ذلك حياته.
أما أميلكار كابرال، فقد كان أوضح من حزبه في تعريف العدو والدولة معًا. رفض اختزال الصراع في مواجهة عسكرية مع المستعمر، وذهب أبعد من ذلك ليؤكد أن المعركة الحقيقية هي ضد العقل الاستعماري داخل الذات الوطنية. ولذلك شدّد على ضرورة بناء وعي سياسي وثقافي جديد يسبق الاستقلال الشكلي، لأن الدولة التي تُولد دون مشروع ثقافي–سياسي واضح تعيد إنتاج القهر باسم الاستقلال.
هذه التجارب، في إفريقيا وخارجها، تؤكد حقيقة واحدة: اللحظة التاريخية تتقدّم دائمًا على الهياكل التنظيمية. فالأحزاب، مهما كانت ثورية في نشأتها، تميل بمرور الزمن إلى التحفّظ وحماية الذات، بينما تتطلّب لحظات التأسيس قادة مستعدّين لتحمّل العزلة، والاتهام، وحتى الإقصاء، في سبيل الانحياز للمستقبل.
وعليه، فإن السياسة في مثل هذه اللحظات ليست اختبار ولاء تنظيمي، بل اختبار شجاعة تاريخية: شجاعة تسمية الأشياء بأسمائها، شجاعة اتخاذ مواقف غير شعبية، وشجاعة القطيعة مع الماضي حين يصبح الماضي عبئًا على الحاضر والمستقبل. ومن يخطئ في قراءة اللحظة لا يُحاسَب فقط بوصفه قائدًا فشل، بل بوصفه فاعلًا أعاق ميلاد الممكن التاريخي.
الخلاصة: خارج لحظة السودان لا يُصنع مستقبل:
إن ما أقدمت عليه قيادات حزب المؤتمر السوداني، بفصلها القيادات التي انحازت إلى تحالف تأسيس، لا يمكن فهمه بوصفه إجراءً تنظيميًا لحماية الحزب أو صون مؤسساته، بل بوصفه موقفًا سياسيًا كاشفًا لانفصال هذه القيادات عن لحظة السودان التاريخية الراهنة. ففي بلد تتفكك فيه الدولة، ويتشظّى فيه المجتمع، وتتحول الحرب إلى شرط وجودي، لا تُقاس القيادة بقدرتها على ضبط اللوائح، بل بقدرتها على قراءة الضرورة التاريخية والانحياز لها. وحين تتحول اللوائح إلى بديل عن الرؤية، يصبح التنظيم قيدًا على السياسة لا أداة لها.
في المقابل، فإن المجموعة التي وقّعت على ميثاق تحالف تأسيس لم تتجاوز قياداتها تنظيميًا فحسب، بل تجاوزتها تاريخيًا. لقد أدركت، بوعي سياسي نادر في المشهد السوداني، أن البلاد لم تعد تحتمل سياسة الانتظار، ولا إعادة تدوير الشعارات القديمة، ولا الاحتماء بهياكل حزبية شاخت قبل أن تنجز مهمتها. في هذا السياق، لا يصبح الانحياز إلى مشروع تأسيسي خروجًا على النظام، بل فعل مسؤولية تاريخية، لأن النظام نفسه فقد صلاحيته للإجابة عن أسئلة الواقع.
في لحظات التأسيس، لا يسأل التاريخ من التزم بالنصوص الداخلية، بل من امتلك الشجاعة لمغادرة الأطر التي لم تعد قادرة على إنتاج المعنى أو الحل. ولا يُحاسِب من حافظ على “الخط المعلن”، بل من ضيّع الفرصة حين كانت البلاد بأمسّ الحاجة إلى قطيعة واعية مع الماضي. فالسودان اليوم لا يحتاج إلى حرّاس تنظيم، بل إلى صنّاع أفق قادرين على التفكير خارج القوالب التي قادت إلى الانهيار.
إن انضمام هذه المجموعة من قيادات وقواعد حزب المؤتمر السوداني إلى تحالف تأسيس لا يمثّل خرقًا تنظيميًا، بل انحيازًا صحيحًا للضرورة التاريخية. ففي لحظة تتهاوى فيها أوهام الإصلاح الجزئي، يصبح التمسك بالبنى الحزبية المتكلّسة فعل هروب سياسي، بينما يصبح الخروج عليها فعل شجاعة أخلاقية. لقد اختارت هذه المجموعة أن تقرأ الواقع كما هو، لا كما ترغب القيادات المحافظة في تخيّله، وأن تنحاز إلى مشروع يواجه جذور الأزمة بدل الدوران حولها.
والتاريخ، في تجارب الشعوب التي خرجت من الحروب والانهيارات، لا يكافئ من احتموا بالماضي ولا من تشبّثوا بالمواقع، بل ينحاز لأولئك الذين خاطروا بمكانتهم التنظيمية لينحازوا للمستقبل. هكذا تُصنع التحولات الكبرى: حين تتقدّم القواعد على قياداتها، وحين تكسر الإرادة الجماهيرية أقفاص الطاعة التي شاخت، وحين يُستبدل وهم “الانضباط” بـ شجاعة التأسيس
من هنا، فإن النداء اليوم لا يُوجَّه إلى قيادات الأحزاب السودانية التي أثبتت عجزها عن التقاط اللحظة، بل إلى قواعدها وجماهيرها: إلى الثورة على التكلّس، وعلى الخطابات التي تبيع الوهم باسم الحكمة، وعلى القيادات التي تفضّل السلامة التنظيمية على خلاص الوطن. فالانضمام إلى المستقبل لا يتم عبر بيانات الإدانة ولا عبر انتظار التسويات، بل عبر الانحياز لمشاريع تأسيسية حقيقية تعيد تعريف الدولة، والشرعية، والمواطنة. ومن يتخلّف اليوم عن التقاط لحظة السودان التاريخية—مهما علا صوته أو تشدّق بالمبادئ—إنما يختار الوقوف خارج مسار الغد. فالمستقبل لا يُمنَح لمن انتظر، بل يُنتزع انتزاعًا من أيدي المتكلّسين والمحافظين على بنية السودان القديم؛ من أولئك الذين راكموا الفشل ثم تحصّنوا به. الغد يصنعه من امتلك شجاعة القطيعة مع هذه البنية، وانحاز بوعي وحسم إلى مشروع التأسيس، لا إلى منطق إدارة الانهيار وإعادة تدوير الخراب.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)





