موقفٌ شقّ ستار العتمة، ودفع قائد الجيش إلى الخروج من منطقة الضباب التي ظلّ يتحصّن داخلها. بيانٌ يشبه باباً يُغلق دفعة واحدة، كأنه الصدى الأخير لاجتماعٍ محتدم في الكلية الإعدادية بجامعة الجزيرة؛ قاعةٌ ارتجّ فيها الخطاب الإسلاموي القديم، وشمخَت فيها رائحة تشدّدٍ يتقدّم كجمرٍ تحت الرماد.
هناك وُلدت توصيةٌ لم تكن رأياً بل يميناً مغلّظة: رفضٌ قاطع لأي مفاوضات، وتفويضٌ لمعركة «الحسم»، بوصفها الطريق الوحيد المتبقي أمام الحركة الإسلاموية لترميم ما تبقّى من نفوذها. وارتفعت الأصوات نحو البرهان تتّهمه بـ «رمادية» لا تليق بالقائد الأعلى، وبنزوعٍ إلى مساراتٍ تخدش كبرياء الحرس القديم. لحظةٌ كشفت الشرخ العميق داخل البيت الإسلاموي، ودفعت المراقبين إلى رسم خريطة جديدة لقوى تتقدّم أو تتآكل تحت ضغط دولي يشتدّ.
وفي اليوم التالي بدا البرهان كأنه يجيب تلك القاعة قبل أن يجيب العالم. شنّ هجوماً على الورقة التي حملها مبعوث الرئيس الأميركي، مسعد بولس، وصاغتها الآلية الرباعية. مسارٌ وصفه بأنه «أسوأ ما قُدّم»، لأنه يقترب من قدسية الجيش ويجرّده من هرمية الامتيازات التي صمدت لعقود. أمام كبار الضباط تحوّل الرفض إلى موقف مؤسسي لا يسمح بمراجعة، ولا يترك مجالاً لصفقة داخلية لاحقة.
أغلق القائد الباب في وجه خطة تبدأ بهدنة إنسانية وتمهّد لمفاوضات تستبعده من مستقبل السلطة. بالنسبة إليه، أي حديث عن «استبعاد القيادة» ليس اقتراحاً سياسياً بل إنذار وجودي. ومن بين السطور يتسرب شعورٌ بأن الحرب، بكل كلفتها الباهظة، أقل مرارة من خسارة المقعد الحاكم.
وامتدّ التصعيد ليطال مبعوث البيت الأبيض نفسه، إذ اتُّهم بالانحياز وبتجاوز حدود التفويض، وبأنه يتحوّل إلى عائق أمام السلام. لهجةٌ تكشف خوفاً من ضغط دولي قادر على تقويض شبكات النفوذ التي راكمتها قيادة عسكرية ومجموعات إسلاموية بنت مصالحها على امتداد سنوات الحرب.
وفي خطٍ موازٍ، يواصل البرهان تدوير خطاب «القتال إلى النهاية»، ويقدم صورة «المتمرّد» كصفحة يجب تمزيقها قبل أي اتفاق. خطابٌ يجد صدىً لدى أجنحة داخلية نافذة، من تنظيم الكيزان إلى شبكات الحرب التي ترى في التسوية نهاية لاقتصادٍ وامتيازاتٍ وُلدت في الظلال.
وبين ضجيج السلاح وسلالم الطموح، يتّسع نزيف السودان. حربٌ تدخل عامها الثالث، خلّفت عشرات الآلاف من الضحايا، وأكثر من اثني عشر مليون نازح، ودَفعت الأمم المتحدة إلى وصفها بـ «أسوأ كارثة إنسانية في العالم». والمجتمع الدولي يكرر نداءه، فيما تتزايد عزلة الجيش مع كل بيان رافض، وتتشابك خيوط الأزمة أمام وسطاء يصطدمون بجدار لا يلين.
تبدو البلاد واقفةً على حدّ السكين. جيشٌ يواصل حرباً تستنزف المدن والذاكرة، وحركةٌ إسلاموية تستحضر خطاب الماضي لتثبيت نفوذٍ يتآكل، ووساطاتٌ تلاحق لحظةٍ تتفلت من الجميع. مشهدٌ يكتب فيه القائد العام بيانات الحرب كأن السلام لا يأتي إلا حين تهلك الأطراف جميعاً، وتقف البلاد على حافةٍ لا أحد يعرف ما إذا كانت قابلة للعودة.





