المشهد السوداني يتصدّع في كل زاوية، فيما يقف قائد الجيش عند حافة الهاوية كأنه يتلذّذ بصوت الانهيار. يتصرف كقائدٍ يمسك برايات النصر، بينما تلمع خلف عينيه هزائم قديمة يعرفها الناس كما يعرفون تجاعيد الخوف على وجوههم. يتحدّث بثقة زائفة عن الحسم، عن نهاية وشيكة للقتال، عن جيشٍ يقف خلفه… لكنه هو ذاته الذي رفع بالأمس راية السلام مرحّباً، شاكراً لمحمد بن سلمان، ممتناً لترامب، متودّداً للعالم، ثم يعود اليوم إلى صوته الأول: “يا إمّا نحن، يا إمّا المليشيا”. كأن الرجل يعيش على وقع ذاكرةٍ بلا جدران؛ أو مصاباً بالشيزوفرينيا.
ذاكرة البلاد تحتاج من يوقظها. كلما احتمى الناس بزيّ الجيش، اكتشفوا أن الدروع من ورق. الجيش الذي تغنّى له فنانون: “حارس مالنا ودمنا”، كان يهمّ بالانسحاب كلما اقترب الخطر من بيوت المواطنين. في الجزيرة، في الجنينة، في الفاشر، في بارا… المشهد واحد: المدن تركض إلى الجنود طلباً لظهرٍ يستندون إليه، والجنود يركضون في الاتجاه المعاكس. ما من عقيدة عسكرية تسمّى حماية، ما من وعدٍ يسمّى وطن. كانت المليشيات تجتاح القرى، يحترق الأفق، ويترك الجنود النساء والأطفال يواجهون الليل وحدهم، كأن القدر هو الجيش البديل.
ثم جاءت تصريحات ترامب الأخيرة. كلمات صاخبة من عاصمة أميركا تدعو إلى “حسم الفوضى” في السودان، فصفّق لها البرهان قبل أن تبرد حرارة المايك في واشنطن، وتلقّفتها كل القوى، بما فيها الحركة الإسلامية التي تعرف جيداً كيف توظّف كل فوضى لصالحها. في هذه اللحظة بالذات، لحظة الاحتقان الدولي والمحلي، كان يُفترض بقائد الجيش أن يمدّ اليد نحو إنقاذ ما تبقّى من الدولة. لكن هذا القائد المحاصر داخل شبكة الإسلاميين، بدا كمن يختار إشعال أعواد الثقاب واحداً تلو الآخر، متلذذاً بوهج النار أكثر من فكرة إطفائها.
الخطر ليس في التصريحات بقدر ما يكمن في النوايا. فحين يتصرّف رجلٌ يملك مفاتيح العسكر بهذه الرعونة، يصبح الوطن كله مادة قابلة للاحتراق. وحين يختلط غضب الحركة الإسلامية برغبة هذا القائد في البقاء، تُفتح أبواب الجحيم على مصراعيها. الشعب الذي يُدفَع اليوم إلى ليلٍ بلا مدارس، وعيادات بلا دواء، وجامعات بلا تخرّج، يسمع صدى المعركة ولا يجد قائداً يستحق أن يتبعه. أطفال البلاد ينامون على ركام الفصول، ومرضى السودان يتهجّون أسماء الأدوية كما لو كانت قصائد فُقدت مع انهيار الدولة.
السودان يقف الآن أمام سؤال لا يملك رفاهية تأجيله: ماذا يفعل بلدٌ يواجه قائداً يتعامل مع حياة شعبه كما يتعامل لاعب نردٍ متمرّس مع حصاة صغيرة باردة؟ ماذا تفعل أمة تودّع أبناءها في كل صباح، بينما الجنرال يواصل بيع الوهم على منصات السياسة والإعلام؟
المأساة السودانية لم تعد حرباً فقط، بل امتحان أخلاقي، ومواجهة مع حقيقة مريرة: الخراب لم يأتِ من الغرباء، بل من أبناءٍ عرفوا الدروب وأحرقوها، عرفوا جراح الناس وتركوا النزيف يتكفّل بالبقية.





