تجري الحرب الكارثية، التي لا يزال رحاها يدور في بلادنا الآن، على ثلاثة محاور رئيسة: محورٌ عسكريٌّ، ومحورٌّ سياسيٌّ، ومحورٌ إعلامي. وأود التركيز هنا على المحور الإعلامي الذي شهدت ساحتُه، في الأسابيع الثلاثة التي أعقبت تحرير الفاشر، فورةً استثنائيةً، غير مسبوقة. وكان التركيز في هذه الفورة الضخمة المفتعلة، التي اتسمت بالانتقائية المفضوحة، على حصر الانتهاكات في قوات الدعم السريع. صُمِّمت هذه الحملة وجرت على صورةٍ من التحامل بالغةٍ، وكأن قوات الجيش وكتائب الإخوان المسلمين لم تقوما بانتهاكاتٍ في هذه الحرب، بل، ولا في أي فترةٍ سابقةٍ لهذه الحرب!
لقد ارتفع الصراخ الذي أُعدت أسبابه سلفًا، وجرى تجهيز المسرح له وفق تخطيطٍ محكم، حتى بدا وكأن الانتهاكات تحدث لأول مرة في تاريخ السودان. هذا في حين أن الذين أشعلوا هذه الحرب الإعلامية ضد تحالف تأسيس، وأخذوا يتباكون على ما أصاب المواطنين، هم أكبر قبيلٍ مارس الانتهاكات في تاريخ السودان. بل، وقد جرت أكبر تعدِّياتهم الوحشية على المدنيين في إقليم دارفور نفسه. فالضحايا من المدنيين الدارفوريين، الذين جرى توثيق أعدادهم بواسطة المنظمات الدولية، يقدر بـ 300 ألف. وقبل أيام قليلةٍ قالت الخبيرة في الشؤون الأفريقية، الدكتور أماني الطويل، في مقابلةٍ تلفزيونيةٍ، أنها طارت فوق إقليم دارفور، في العام 2004، وشاهدت قرىً محروقةً بكاملها. وبالفعل، فقد جرت في الفترة ما بين 2003 و2006 الهجمات المكثَّفة لقوات الجنجويد، بقيادة موسى هلال، على قرى دارفور. وهو أمرٌ شاهده العالم برمته، وقتها. وكانت تلك هي الفترة التي وثقتها الأمم المتحدة. وبناءً عليها جرى تقديم الاتهمات للرئيس المخلوع عمر البشير وأعوانه، ومن ثم، طلب مثولهم أمام محكمة الجنايات الدولية.
أيضًا، وكما هو معلومٌ، فإن توثيق حرق القرى في إقليم دارفور في عامي 2003 و 2004، وما أعقب ذلك، قد وثقته، وبدقَّةٍ شديدةٍ، الصور الفضائية التي كان يبثها القمر الصناعي، الذي دفع كلفته الممثل الشهير، جورج كلوني. وقد وثَّق ذلك القمر الصناعي، إلى جانب الهجمات الأرضية الوحشية على المدنيين، صورًا لطائرات الأنتينوف، وهي تقصف القرى بالمواد المتفجرة والحارقة. كما قام جورج كلوني، في نفس تلك الفترة، برحلةٍ إلى جبال النوبة. قال بعدها: إنه عاد بصورٍ عديدةٍ لجثثٍ مشوَّهةٍ لأطفالٍ بلا أطراف، بسبب تعرُّض القرى هناك للقصف الجوي على أيدي القوات السودانية. وقال: إن كثرة القصف قد اضطرت سكان جبال النوبة للعيش في كهوف الجبال. وقد قامت قوات الحركة الشعبية شمال، بقيادة عبد العزيز الحلو، بحفر الخنادق للمدنيين ليختبئوا فيها حين الغارات.
كل ما قام به المجتمع الدولي، حينها، فيما يتعلق ما جرى في دارفور بين عامي 2003 و2006، أن نسب الجرائم إلى قائمةٍ من الأشخاص المتنفذين. وتُرك نظام الإخوان المسلمين، بقيادة الرئيس المخلوع، عمر البشير ليبقى في مكانه. وبالفعل، بقي في مكانه منذ ذلك التاريخ، وإلى يومنا هذا. وحتى هؤلاء الذين أُلصقت بهم تُهَمُ جرائمِ دارفور، وأصبحوا مطلوبين لمحكمة الجنايات الدولية، لم يمثل أمام المحكمة منهم سوى بحر أبو قردة، الذي أخلت المحكمة سبيله، وعلي كوشيب، الذي سلم نفسه اختيارًا، بعد أن عبر حدود السودان إلى جمهورية إفريقيا الوسطى، وتمَّت إدانته. أما بقية المتَّهمين، وعلى رأسهم الرئيس المخلوع، عمر البشير، وأحمد هارون الذي كان وراء تكليف كوشيب بالإبادات الجماعية، وعبد الرحيم محمد حسين، وغيرهم، فلا يزالون يعيشون في بحبوحةٍ من العيش والدَّعة والأمان، تحت حماية حكومة بورتسودان، غير الشرعية، بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان. فالبرهان الذي تباكي مع إعلام الإخوان المسلمون المضلِّل الكذوب، بحرقةٍ مفتعلةٍ، وهو يعانق سيدةً قِيل إنها من دارفور وقد لجأت إلى الدبة في شمال السودان، عقب تحرير الفاشر، هو، نفسه، الشخص الذي سبق أن أجرم في حقِّها وحقِّ أهلها، بل، ولا يزال يُجرم. وتحوم شكوكٌ في أن بعضًا من أهل دارفور قد نزحوا فعلاً إلى الدبة، التي يسود فيها قانون الوجوه الغريبة، بل، وأن هناك معسكرًا حقيقيًّا للجوء. لقد كان الفريق البرهان أحد الضالعين في أفظع الانتهاكات التي وقعت على مدنيِّي دارفور. حدث ذلك، حين كان ضابطًا ضمن قوات الجيش التي كانت هناك، آنذاك. بل، لقد كان البرهان مسؤولاً عن العمليات العسكرية في المناطق التي جرت فيها هجمات موسى هلال.
الانتقائية على المستوى الدولي
رغم الحملة الإعلامية الضخمة التي جرت حول دارفور، في داخل الولايات المتحدة الأمريكية، في عام 2004، مطالبةً الحكومة الأمريكية أن تصنِّف ما يجري فيها بأنه إبادة جماعية، ليصبح ذلك مسوِّغًا لتدخلها منفردةً، أو عبر المنظمة الدولية، لوقف تلك الإبادة الجماعية، تجنَّبت الحكومة الأمريكية أن تصنفها كذلك. وبناءً عليه، لم تقم بفعل شيءٍ، أكثر من الإدانات وإعلان العقوبات، هنا وهناك. ويبدو، في تقديري، أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اختارت ذلك الموقف الذي لا يكلِّفها شيئًا، لأسبابٍ تخصُّها. ولا يزال موقفها ذاك من جرائم دارفور التي اقشعرت منها الأبدان، موقفًا غامضًا وغير مفهوم. لقد مضت تلك الجرائم البشعة في دارفور دون أي تدخُّلٍ خارجيٍّ، من أي نوع.
لكن، ما جال في خاطري حول سبب تقاعس الولايات المتحدة الأمريكية عن التدخل آنذاك، هو أنها قد كانت منشغلةً بالإعداد لفصل الجنوب. فقد كانت، في تقديري، منهمِكةً في دسِّ خطته في تفاصيل مفاوضات نيفاشا، التي أُعلنت في عام 2005، لتصبح القنبلة الموقوتة التي تنسف وحدة البلاد، وتفصل الجنوب عن الشمال. وهو ما جرى بالفعل في عام 2011. لقد مثل فصل جنوب السودان، بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، في تلك الفترة، الأولوية التي لا ينبغي أن تنشغل عنها بشئٍ آخر. وهكذا، تُركت دارفور لتحترق، وتُرك نظام الإنقاذ ليبقى، ليجري من خلاله فصل الجنوب. أما دارفور فقد تركت لتكون العودة إليها لاحقًا، في الوقت المناسب. ورغم كل ما جرى من الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، ها نحن اليوم، نرى بعضًا من كبار المشرِّعين الأمريكيين قد عادوا يتباكون حول ما يصفونه بأنها فظائع صاحبت تحرير الفاشر. وكما قال كارل ماركس: “إن التاريخ يعيد نفسه، أولاً: كمأساة، وثانياً: كمهزلة” وواضحٌ جدًا، من وجهة نظري، أن حالة إعادة التاريخ نفسه كمهزلة، هي ما نمر به اليوم.
كل الحروب تقتل المدنيين
قد يبدو هذا العنوان الجانبي، الذي أكتب تحته الآن، صادمًا لكثيرين. لكن دعونا نقرأ هذه الأرقام لنعرف أن الحروب، بطبيعتها، تقتل المدنيين. فأعداد المدنيين الذين لقوا حتفهم في الحرب العالمية الثانية وصل إلى 38 مليونًا. أما في الغزو الياباني للصين في ثلاثينات القرن الماضي، فيدعم معظم العلماء الموثوق بهم في اليابان، ومن بينهم عدد كبير من الأكاديميين، ما توصلت إليه المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى، وهو: أن عدد القتلى لا يقل عن 200,000، وأن حالات الاغتصاب لا تقل عن 20,000 حالة. كما جرى في الغزو الياباني للصين إعدام الجنود الصينيين في محاكماتٍ إيجازية، في انتهاكٍ واضح لقوانين الحرب. وإلى جانب اغتصاب النساء والفتيات بصورةٍ جماعيةٍ، فقد انتشر النهب على نطاقٍ واسعٍ جدا. وقد قام اليابانيون بنفس تلك التجاوزات حين استعمروا كوريا، بين عامي 1910 و1945. فقد قتلوا من المدنيين ما يتراوح بين 378 ألفًا و483 ألفًا. وهاهي حرب أوكرانيا يصل فيها عدد القتلى من المدنيين، حتى الآن، عشرات الآلاف. وقد حدث ذلك رغم جودة البنية التحتية، ووجود المخابئ، وتوفُّر الإرشادات، فما بالك بالسودان؟
أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد تدخلت في الحرب الكورية، في بداية خمسينات القرن الماضي. وتقول التقديرات، أن أعداد من قُتلوا في الحرب الكورية من المدنيين، يتراوح ما بين 2 و 4 ملايين شخص. من بين هؤلاء الذين قُتلوا: 1.5 مليون مدني كوري شمالي، و 990 ألف مدني كوري جنوبي. وبعد عقدٍ ويزيد على نهاية الحرب الكورية تدخلت الولايات المتحدة في الحرب الفيتنامية. فقد بدأت الحرب بين شطري فيتنام؛ الشمالي والجنوبي في عام 1955. ثم، انخرطت فيها الولايات المتحدة الأمريكية، بثقلها، في عام 1965. لتستمر حتى عام 1975. وتقول التقديرات الدولية، أن أعداد المدنيين الفيتناميين الذين لقوا حتفهم في تلك الحرب التي استمرت لعشرين عامًا، يتراوح ما بين 405,000، و2 مليون نسمة.
أيضًا، تقول الأمم المتحدة إن الحرب التي أعقبت تفكك يوغوسلافيا السابقة قد أودت، بين عامي 1992 و1995، بحياة أكثر من 100,000 شخص، في البوسنة والهرسك؛ معظمهم من المسلمين البوسنيين، كما شردت أكثر من مليوني شخص آخرين. أما الحروب التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر، فتقدِّر دراسةٌ قامت بها جامعة براون أن هناك أكثر من 432 ألف مدني قتلوا نتيجة العنف المباشر في كلٍّ من العراق، وأفغانستان، وسوريا، واليمن، وباكستان. أما حرب غزة الأخيرة، فيقول جهاز الإحصاء الفلسطيني أن من قتلوا فيها قد كان أكثر من 69 ألفًا؛ غالبيتهم من المدنيين. ولذلك يمكن القول، وبثقة شديدة، أن على من لا يريد للمدنيين أن يُقتلوا، ألا يشعل حربًا قط. فالحرب، كلُّ حربٍ، وبلا أي استثناء، تقتل المدنيين قتلاً ذريعا، وتشردهم وتمرضهم وتدمر مستقبلهم لأجلٍ قد يطول وقد يقصر. فمن يشعل الحرب؛ سواءً كانت دولة كبرى أو دولة صغيرة، أو أي جماعة من الجماعات المسلحة، ثم يتباكي على قتل المدنيين، فهو منافقٌ، لا غير.
خلاصة القول، إن الحرب، بطبيعتها، تقتل المدنيين. كل مافي الأمر أن المغرضين الممسكين بمقابض السلطة والثروة في كل مكان في العالم، الذين مردوا على الاتِّجار بكل شيء لأغراض السياسة، هم من يستثمرون بفظائعها. يفعلون ذلك وهم متشبِّثين، كذبًا، بأهداب الفضيلة، متباكين على حقوق الإنسان المهدرة. وللأسف، فإن ذلك يجوز على البسكاء، بل يجوز على كثيرٍ من المتعلمين، فيشترون ذلك، غافلين عن حقيقة أنهم يعيشون في عالم أبعد ما يكون عن المثل والأخلاق والفضيلة. هذه المتاجرة بالمثل وبالأخلاق وبالفضيلة وبحقوق الإنسان، تحدث من دول العالم الصناعي، وتحدث أيضًا، وبصورةٍ أبشع من دول العالم النامي. فعالمنا مختل القواعد هذا، لا يزال، وربما لن ينفك في وقتٍ قريبٍ، من النفاق ومن ازدواجية المعايير، والانتقائية الفجة.
إشعل حربًا لكي ينسي الناس
نحن السودانيين، قومٌ يفتقر قطاعٌ ضخمٌ منا إلى العقل المحايد، ويتسم هذا القطاع منَّا، أيضًا، بخفة العقل، وبالتلَّهُف على تلقُّف الجزئيات، لكي يدعم بها موقفًا قد حدَّده سلفًا، وقفل ذهنه عليها، تمامًا، مانعًا حدوث أي مراجعةٍ نقديةٍ. هذه الصفات، بالإضافة إلى الذاكرة القصيرة، هي ما أنجحت مسعى الإخوان المسلمين وراء إشعال هذه الحرب. فقد نجحوا عبرها في مسح الذاكرة الجمعية لقطاع كبيرٍ منا. وصرفوا كثيرين ممن قاموا بالثورة عن ثورتهم، وأدخلوهم في نفقٍ جديدٍ، مغلقٍ، متَّسمٍ بالغضب وبالغوغائية. وليس أذهب للعقول من الغضب. لقد تحقق لهم حرف الأمور عن مسارها، عبر نسف الاستقرار، وإحداث حالةٍ غير مسبوقةٍ من الرعب، والتشرُّد، وفقدان التوازن. لقد نسي قطاعٌ كبير منَّا التاريخ الدموي الطويل للإخوان المسلمين، الذي استمر حتى الآن لـ 35 عامًا. نسي العقل الجمعي للكثيرين منِّا كلَّ ما مضى منذ محيء الإخوان المسلمون إلى الحكم، ومنذ قيام ثورة ديسمبر 2018. وانحصر كثيرون في الفظائع والانتهاكات التي تسببت فيها هذه الحرب. وهي الحرب التي أشعلها الإخوان المسلمين لذات هذا الغرض. نسي الكثيرون أنهم قاموا بثورة، ونسوا أن أهم هدفٍ من أهداف هذه الثورة هو فك قبضة الإخوان المسلمين وجيشهم عن رقبة الدولة السودانية. بدَّدت الحرب الحضور العقلي لدى كثيرين وأفقدتهم توازنهم وجعلتهم يسمعون ويبصرون ويفهمون بعقول جلاديهم، فأضحوا يرددون “جيشٌ واحد شعبٌ واحد”. جازت عليهم الخدعة الماكرة، وغرقوا في الجزئيات التي أُعلفوا بها، وأصبحوا لا يستطعيون فكاكًا من تأثيراتها، لكي يروا الصورة كاملة.
لا نزال نعيش في طور التَّوحُّش
من التقسيمات اللافتة للنظر لأطوار الإنسان، تقسيمٌ أتي به الأستاذ محمود محمد طه. قال إن البشرية تمرُّ بين الصدور والورود، بثلاث مراحل. مرحلة أولى هي مرحلة التطور العضوي الصرف. وهي المرحلة التي سبقت ظهور العقل الواعي. أماالمرحلة الثانية فهي مرحلة التطور العضوي العقلي، وقد بدأت بعد ظهور العقل الواعي في الكائن الحي. وهي مرحلة العقل والجسد المتنازعين. ويسمِّيها طور “البشر”. وهي المرحلة الحالية التي يرى أننا نمر بأخرياتها. أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة التطور العقلي الصرف. وهذه هي مرحلة العقل والجسد المتسقين، ويسميها طور “الإنسان”. ويرى، بناءً على ذلك، أن طور “الإنسان”، لم يدخل في الوجود بعد. ونحن إنما نعيش الآن الفجر الكاذب لإرهاصات دخوله. فالبشرية لا تزال متوحشة. هي لا تزال متوحشة لأنها، ببساطة، لا تزال تمارس فعل الحرب، ولا تعرف كيف تحل مشاكلها إلا بالعنف. وحين تنتقل البشرية من “طور البشر”، إلى “طور الإنسان”، بفضل الله، ثم بفضل العديد من عوامل التطور التي لا تنفك تعتمل في داخل كلِّ شيء، ستتخلى، تمامًا، عن وسيلة الحرب. إذ، سيغنيها وعيها وحكمتها عن الحاجة إليها. وسيكون ذلك أكبر علامةٍ على أنها قد حققت إنسانيتها. لذلك، يتَّسم هذا الطور الذي نعيش أخرياته، الآن، ببقايا من الوحشية نراها كل يوم هنا وهناك.
تاريخ العالم، منذ نشأته وحتى يومنا هذا، هو تاريخٌ للحروب، وللعنف، والفظائع، والظلم، والعسف، والتجاوزات؛ الحسية والمعنوية. وتاريخ السودان منذ تشكُّل الدولة السنارية، في القرن السادس عشر، وإلى الآن، هو تاريخٌ للحروب. بل، هو تاريخٌ قد دار، ولا يزال يدور في سياق مضطربٍ، لا يزال الإمساك فيه بأسباب الحداثة متعثِّرا. فالعنف البدني مكوِّن أصيل في حياتنا. وحين أتيت بكل تلك الإحصائيات عن موت المدنيين في حروب القرن العشرين التي لم تتوقف حتى نهايته، إنما قصدت أن ألفت النظر إلى سيطرة العنف على حياتنا المعاصرة. وكذلك، أن ألفت النظر إلى أن التباكي على المدنيين من قبل الدول الكبرى، والدول الصغرى، والأمم المتحدة ومنظماتها، وكل منظمات حقوق الإنسان، ليس تباكيًا أصيلا. فالكل يعلم بازدواجية المعايير وبالاتِّجار الذي لا يتوقف بمآسي المدنيين. فالدول الكبرى تنشط في كثيرٍ من الأحيان، في مهاجمة دولٍ بعينها متهمةٍ إيَّاها بالتطهير العرقي، الذي يكون قد حدث بالفعل، وبانتهاك حقوق الإنسان التي تكون قد حدثت بالفعل، أيضا، لكنها لا تفعل ذلك لكي تحمي المدنيين، وإنما لتتخذ من ذلك ذريعة للتدخل، بصورةٍ من الصور، لكي تخدم أهدافًا جيواستراتيجية، وجيوسياسية، تخصُّها. حدث هذا في حرب العراق، وفي حرب أفغانستان، وفي حرب ليبيا، وفي غير ذلك، من مختلف القوى، في الماضي والحاضر.
هل يفهم من كل ما قدمته في هذه الحلقة أنني أبرر العنف والتجاوزات؟ لا! ولا كرامة! فقط وددت أن ألفت النظر إلى أن الحروب جميعها قد شهدت ارتكابًا للفظائع ضد المدنيين. وأن هناك تسييسًا لمآسي البشر، يقوم به الممسكون بمقابض السلطة والثورة والميديا في مختلف السياقات على ظهر هذا الكوكب الحزين. وأن مآسي البشر يجري توظيفها بصورةٍ انتقائية مغرضةٍ. كما أن استخدامًا لإزدواجية المعايير يحدث في وظيفها. لقد حدثت تجاوزات في الفاشر، ما في ذلك أدنى شك. لكنها حدثت في كل حربٍ أخرى، بلا استثناء. فالزوبعة الفارغة الكاذبة، والتهويل والإدانات، التي جرت فيها، هي إدانات سياسيةٌ مفتعلةٌ، وقفت وراءها أغراضٌ للتكسُّب السياسي الآني، ولم تقف وراءها، على التحقيق، دوافعُ أخلاقيَّةٌ نقيَّةٌ، أو نخوةٌ أصيلةٌ في رفع الظلم عن المظلومين. وأقوى دليلٍ على كذب هذه الحملة أن من أعد مسرحها و”فبرك” صورها، وروَّج لها، هم الإخوان المسلمون؛ القبيل الذي لم يُعرف عنه قط أنه اكترث، في يومٍ ما، بالدم البشري، أو بالحياة البشرية. فهذه المقالات إنما هي دعوة إلى الانصراف نحو مناقشة القضايا بموضوعيةٍ، وبعلميةٍ، وبحيدةٍ عقليةٍ تليق بالبحث الجاد، الذي يسعى لمعرفة جذور العنف وفهم سياقاته، بدلاً عن الغوغائية الفالتة، التي لا يهمها بناءٌ أو نماءٌ أو تطويرٌ للفرد البشري، بقدر ما يهمها التكسُّب السياسيُّ، الآنيُّ، الفجُّ، والغث.
(يتواصل)





