تُعدّ مفاوضات السد العالي واحدة من أكثر المحطات إثارة للجدل في تاريخ الدولة السودانية الحديثة، نظرًا لما ترتّب عليها من آثار كارثية طالت الإنسان والأرض والذاكرة الحضارية. فعلى الرغم من أن الحكومات المدنية قبل عام 1958 اتخذت موقفًا حذرًا وحافظت على سقف تفاوضي مرتفع بشأن التعويضات والآثار والموارد، إلا أنّ انقلاب الفريق إبراهيم عبود بتوجيه مصري مثّل نقطة تحوّل دفعت السودان إلى موقع تفاوضي بالغ الضعف، انتهى بتوقيع واحد من أخطر الاتفاقات في تاريخ البلاد.
دخلت الحكومات المدنية المفاوضات مطالِبةً بتعويضات عادلة تقدَّر بـ35 مليون جنيه مصري، وتشمل الآثار والمعادن والبنية التحتية والزراعة، إضافة إلى كهرباء الشلالات في دال وسمنة. لكن مصر رفضت ذلك، وطرحت مبلغ 10 ملايين فقط، مما أدى لتعليق المفاوضات. ومع انقلاب نوفمبر 1958 تغيّر المشهد؛ إذ تولت حكومة عبود الملف، وخفض وفدها الموقف التفاوضي إلى 20 مليون جنيه، قبل أن يُحال الخلاف إلى الرئيس جمال عبد الناصر الذي حكم بمبلغ 15 مليون جنيه فقط—وهو قرار قبِل به النظام العسكري دون اعتراض يُذكر، ودون أي حديث عن الآثار أو مصالح السودان المستقبلية.
كانت النتائج مدمرة: إغراق 27 قرية ومدينة وادي حلفا، تهجير نحو 50 ألف نوبي، ضياع أكثر من 200 ألف فدان من الأراضي الخصبة، غمر مليون شجرة نخيل وحوامض، ودفن حضارة كاملة تحت بحيرة ناصر، تشمل آثارًا نادرة من مملكة كوش والممالك النوبية. كما فقد السودان مصدرًا مهمًا للطاقة كان يمكن أن توفره شلالات المنطقة، دون أن يحصل في المقابل على أي نصيب من كهرباء السد العالي.
أدرك عبود نفسه حجم الكارثة متأخرًا عند زيارته للمنطقة في ديسمبر 1959، حيث لمس آثار التدمير عن قرب؛ غير أن الإجراءات كانت قد اتُّخذت، والاتفاقية أصبحت نافذة. وما بين 1960 و1963 تعرض أهالي المنطقة للاعتقال والقمع خلال احتجاجاتهم على التهجير القسري، وانتهت المأساة بإعادة توطينهم في مشاريع لم تراعِ البيئة ولا الثقافة ولا التاريخ.
لقد تركت اتفاقية السد العالي جرحًا عميقًا في الوجدان السوداني، ليس فقط لفداحة الخسائر، بل لأنها مثّلت نموذجًا صارخًا لفشل وخيبة هذا الجيش الذي أثبت أن ولاءه للدولة المصرية ولا تهمه حماية مصالح الشعب السوداني وارضه. وما زالت آثارها تتردد حتى اليوم، كواحدة من أكبر الأخطاء التاريخية في إدارة الموارد والعلاقات الإقليمية.





