حين نتأمل في المشهد السوداني اليوم، نجد أنفسنا أمام سلسلة من الخطابات التي لا تُخاطب العقل ولا تُحترم الإنسان. ومن بين هذه الخطابات ما صدر عن الناجي مصطفى، الذي لم يتردد في تشبيه البشر بالضفادع والجراد والطوفان، في تشبيه صادم لا يمكن فهمه إلا بوصفه محاولة متعمدة لنزع الإنسانية عن أفراد الشعب وتحويلهم إلى مجرد أدوات في مشروع الحرب. هذه اللغة ليست زلة لسان، ولا هي انفعال عابر، بل هي جزء من منظومة فكرية كاملة ترى الإنسان العادي بوصفه كائنًا قابلاً للتجييش، سهل الانقياد، ولا قيمة له خارج دوره كوقود للصراع. لكن الغريب، والموجع في آن معًا، أن هناك من يستمتع بهذا الخطاب! هناك من يصفق، ومن يهتف، ومن يردد “الله أكبر” كأن شيئًا عظيمًا يُقال، وكأن كرامتهم لم تُدس للتو تحت أقدام الخطابة الجوفاء. يا للعار! كيف يمكن لإنسان أن يفرح بإهانته؟ كيف يمكن أن يرى نفسه في الصور المنحطة التي تُطلق عليه ثم يبتسم؟ هنا ندرك أننا لا نقف أمام أزمة سياسية أو عسكرية فحسب، بل أمام أزمة وعي، أزمة فكر، أزمة تُسمّى في العلوم الاجتماعية بـ”الجهل المركب”: أن يكون الإنسان جاهلًا، وأن يجهل أنه جاهل، وأن يرفض أي محاولة لإيقاظه. في السودان، يتكرّر هذا المشهد بشكل مأساوي. تجد الرجل الأسود يحمل السلاح، يركض نحو الموت، يقاتل بضراوة، لا ليحرر نفسه ولا ليحمي شعبه، بل ليكون عبدًا لرجل أكثر قوة أو نفوذًا. والأسوأ أنه قد يقتل أخاه الأسود من أجل هذا السيد. إنها عبودية معاصرة، عبودية لم تعد بحاجة إلى سلاسل حديدية، بل يكفيها خطاب يُغلّف الإذلال بقدسية زائفة. يكفيها أن يقول القائد كلمة حماسية، أو يرفع شعارًا دينيًا، فتشتعل العاطفة في صدور البسطاء، ويندفعون إلى حرب ليست حربهم، ويموتون في معركة ليست معركتهم. إن تلك النخبة التي تجيد فنون الخطاب تُتقن أيضًا فنون الهروب من المسؤولية. فالذين يطلقون التصريحات النارية، ويحرّضون على الموت، ويعتبرون الدم علامة بطولة، هم أنفسهم الذين لن يقتربوا من ميدان القتال. لن يروا الموت إلا في شاشات التلفزيون. لن يدفنوا أبناءهم لأن أبناءهم في منأى عن الخطر. سيجلسون في مكاتب مكيفة، أو يختبئون خلف جيوش من الحراسة، بينما يمضي الفقراء وحدهم إلى الجبهات، حاملين معها أحلام أسرهم التي ستنقطع فجأة عند أول طلقة. إن السؤال الذي يتكرر في ذهن أي عاقل: هل يا ترى الشخص الذي يُلقي الخطاب سيخوض الحرب حقًا؟ هل سيقف في الخطوط الأمامية؟ هل سيضع نفسه في مواجهة نفس المخاطر التي يطلب من الآخرين أن يواجهوها؟ الإجابة معروفة: لا. فالتاريخ كله يخبرنا أن الذين يشعلون الحروب نادرًا ما يخوضونها، وأن الذين يدعون إلى القتال عادة ما يرسلون آخرين ليموتوا نيابة عنهم. هذا الانفصال بين الكلمة والفعل هو أساس المأساة السودانية اليوم. إن السودان يعيش أزمة عميقة لا يمكن اختزالها في خلاف سياسي أو صراع مسلح، فهي أعمق من ذلك بكثير. إنها أزمة في بنية الوعي الجمعي. حين يُهان الإنسان ولا يشعر بالإهانة، وحين يُستغل ولا يدرك أنه يُستغل، وحين يقاتل من أجل مصالح غيره وهو يظن أنه يقاتل لأجل نفسه، فهذه كارثة أخلاقية قبل أن تكون كارثة وطنية. في هذه الحالة تكون المعركة ليست على الأرض، بل في العقول. ويصبح التحرير الحقيقي ليس تحرير مدينة، بل تحرير طريقة التفكير. إن الخطاب الذي يروج له البعض اليوم يهدف في جوهره إلى صناعة شعب فاقد للقدرة على السؤال. شعب يقبل كل ما يُقال له دون تمحيص. شعب يبتلع الشعارات دون أن يسأل عن معانيها أو نتائجها. وما أسهل السيطرة على شعب كهذا! حين يُفقد الإنسان القدرة على التفكير، يصبح تابعًا، وتصبح مشاعره ملكًا لغيره، ويكفي أن يخاطب أحدهم نخوته أو دينه أو قبيلته حتى يتحول إلى محارب شرس. هكذا تُدار الحروب الأهلية، وهكذا يُعاد إنتاج نفس المأساة مرة بعد أخرى. هؤلاء الذين شبّههم الناجي مصطفى بالضفادع والجراد، ليسوا ضحايا الخطاب فحسب، بل ضحايا نظام طويل من التجهيل. لقد اعتادوا على النداءات العاطفية أكثر من الخطابات العقلانية، وعلى الشعارات أكثر من الحقائق. والأخطر أنهم اعتادوا على تقديس القائد، أيًا كان، وعلى افتراض أنه لا يخطئ، وعلى منح ولائهم المطلق لمن يجلس في قمة السلطة، حتى لو كان هذا القائد يدفعهم للموت. في لحظة يصبح فيها القائد هو المعبود، والوطن مجرد خلفية، والناس مجرد أرقام تُضاف إلى قائمة الشهداء، تنهار كل القيم، ويصبح الدم أرخص من الكلمات. غير أن السؤال الأصعب هو: كيف وصلنا إلى هنا؟ ما الذي جعل الإنسان السوداني يقبل بالإهانة، ويحتفل بتشبيهه بالحشرات؟ الإجابة ليست بسيطة، لكنها تبدأ من عقود من غياب التعليم الجاد، وغياب الإعلام الحر، وغياب الحوار الصريح داخل المجتمع. حين تُغلق أبواب المعرفة، تصبح الخرافات حقائق، ويصبح الصوت العالي بديلاً عن المنطق. حين تغيب الدولة العادلة، يتشقق المجتمع إلى مجموعات تبحث عن حماية من قبائلها أو قادتها، وتتحول هذه المجموعات إلى أدوات سهلة لمن يعرف كيف يستغل مخاوفها. وفي هذا المشهد المظلم، يقف الشاب السوداني في منتصف الطريق، ممزقًا بين حماسة تُغذّيها الخطابات، وواقع قاسٍ لا يرحم. يُدفع إلى الجبهة من أجل شعارات يعتقد أنها مقدسة، لكنه لا يجد ما يعيش به يوميًا. يعتقد أن الحرب ستمنحه كرامة، بينما هي تسلبه آخر ما تبقى له من كرامة. يعيش في عالم تُقدّم فيه البطولة بالمعنى الدموي فقط، بينما يتم تجاهل البطولة الحقيقية: بناء المجتمع، تعليم الأجيال، حماية الحياة، صناعة المستقبل. ولأن الأزمة أزمة وعي، فإن الخروج منها لا يكون بالسلاح. السلاح قد يحسم معركة، لكنه لا يبني أمة. الخراب يمكن أن يصنعه أي مجنون يمتلك القوة، أما البناء فلا يصنعه إلا عقل مستنير. ما يحتاجه السودان اليوم ليس مزيدًا من الجنود، بل مزيدًا من الوعي. ليس مزيدًا من الضجيج، بل مزيدًا من التفكير. ليس مزيدًا من الخطابات النارية، بل مزيدًا من الأسئلة الصادقة: لماذا نقاتل؟ ولأجل من؟ وما الثمن؟ إن الإنسان الذي يستعيد وعيه لا يمكن أن يُقاد بسهولة. لا يمكن أن يُستغل. لا يمكن أن يقبل بأن يُشبَّه بالحشرات. الإنسان الواعي هو الذي يفهم أن حياته ليست مادة للاستهلاك السياسي، وأن كرامته ليست ورقة في يد قائد، وأن مستقبله ليس هدية تُمنح له، بل حق ينتزعه بعقله ووعيه. وحين يصل الشعب السوداني إلى هذه المرحلة، لن تكون هناك قوة تستطيع أن تعيده إلى مربّع العبودية. أما اليوم، فنحن نعيش في واقع يتقدّم فيه صوت الجهل على صوت العقل، ويتقدّم فيه من يشعلون الحرب على من يدعون إلى السلام، ويُمنح فيه الميكروفون لأصحاب الخطابات الرخيصة بينما يُسكت صوت الحكماء. ومع هذا، يبقى الأمل موجودًا في تلك الفئة الصامتة، التي تراقب بوعي، وتفهم عمق الكارثة، وتدرك أن الخلاص لن يأتي من بندقية، بل من صحوة فكرية جماعية. إن كلمات الناجي مصطفى ليست مجرد خطاب عابر، بل مرآة تعكس حجم الأزمة السودانية. مرآة تُظهر كيف فقد المجتمع جزءًا كبيرًا من مناعته الأخلاقية والفكرية، وكيف أصبح البعض يتلذذ بالإهانة دون أن يشعر. لكنها أيضًا فرصة لنرى الحقيقة بوضوح، وأن ندرك أن المعركة الحقيقية ليست بين قوات ومليشيات، بل بين وعي وزيف، بين عقل مُستعبد وعقل حر. في النهاية، ستتوقف الحرب يومًا ما، ستتعب البنادق، وستلتقي الأطراف المتحاربة حول طاولة ما. لكن السؤال الحقيقي: هل سيكون الوعي قد تحرر؟ إن توقفت الحرب وظل الجهل كما هو، فإنه سيعيد إنتاج نفسه في شكل آخر، وسنجد أنفسنا نسير في نفس الدائرة الملعونة. أما إذا بدأ الشعب يفهم، ويُحلل، ويُشكك، ويرفض الخطابات التي تُهينه، عندها فقط يمكن أن نقول إن السودان بدأ يخرج من الظلام. هذا الوطن لا يستحق أن يكون مسرحًا لصراعات المتسلطين. لا يستحق أن يكون مقبرة لأبنائه. لا يستحق أن يُدار بالجهل. السودان يحتاج إلى ثورة فكر، لا ثورة سلاح. يحتاج إلى قادة يحترمون الإنسان، لا إلى خطباء يُهينونه. يحتاج إلى أن يعيد المواطن اكتشاف نفسه وقيمته، وأن يدرك أنه أكبر من أن يُختزل في صورة ضفدع أو جرادة، وأن كرامته لا تُقاس بضجيج الحرب، بل بقدرته على أن يعيش حرًا، عاقلًا، واعيًا. وحين يحدث ذلك، حين ينهض الوعي من سباته، لن يستطيع أي خطيب أن يحرّض أحدًا على قتل أخيه، ولن يكون الإنسان السوداني وقودًا لحرب غيره، بل سيكون ركنًا من أركان بناء مستقبل جديد، يليق بتاريخه وحضارته وإنسانيته. هذا هو الطريق الحقيقي، وهذا هو الخلاص الممكن، وكل ما عداه مجرد دوران في فلك الجهل الذي صنع كل هذا الخراب.





