بقلم: فاطمة لقاوة
في مقاله الأخير بعنوان «ما بعد الفاشر وقبل فوات الأوان»، رسم ياسر عرمان لوحة قاتمة لمستقبل السودان، متحدثًا عن خطر الحرب الإثنية والتدخل الخارجي، وكأنّ دارفور تقف على حافة الإنهيار. الحقيقة التي يتجاهلها عرمان – عمدًا أو غِيرة – هي أنّ ما بعد الفاشر تمثل فرصة تاريخية لإعادة تأسيس الدولة السودانية على أسسٍ جديدة، إذا ما أحكمت حكومة التأسيس سيطرتها على مفاصل الإقليم، وفرضت هيبة الدولة، وقدمت الخدمات، وأعادت للحياة المدنية طبيعتها وإستقرارها.
ياسر عرمان الذي تجاوز الستين من عمره، أمضى نحو أربعين عامًا بين الغابات والجبال مقاتلًا في صفوف الحركة الشعبية، دون أن يقدّم مشروعًا وطنيًا متكاملًا لبناء الدولة.
اليوم، وبعد أن غادر الميدان مثقلًا بتاريخٍ من الصراعات والخيبات، يحاول أن يلعب دور “المرشد” الذي يدق ناقوس الخطر في غير موضعه.
عرمان الذي لا يزال مطاردًا بقضية قتل طالبٍ تحت المادة (130) في القانون الجنائي السوداني، لا يصلح أن يكون ضميرًا سياسيًا يوجه بوصلة البلاد، ولا سيما أن مواقفه الأخيرة تعكس ازدواجية خطيرة في الخطاب، فهو يغازل البرهان الذي أشعل الحرب وقتل الأبرياء تارة، ويحذر من خطر إستمرارية الحرب تارة أخرى، في مشهدٍ يفضح هشاشة مواقفه وتقلّباتها.
الفاشر ليست بداية تفكك السودان كما يروّج عرمان، بل هي بداية التعافي من جِراح الحرب الطويلة.
قد أثبتت الأحداث الأخيرة أن مجتمعات دارفور تجاوزت معادلة الثأر القبلي والانقسام الإثني، وبدأت تلتف حول فكرة الدولة، لا الشُلليات والأفراد كالسابق، وحول مشروع السلام الدائم لا الحرب المفتوحة.
إنّ قدرة حكومة التأسيس على إدارة هذه المرحلة الحساسة بنفَسٍ طويل وعقلٍ بارد، ستحدد إن كان السودان سيسير نحو الإنهيار أو نحو بناء دولة المؤسسات.
وليتحقق التعافي المنشود، لا بدّ من:اولا:فرض هيبة الدولة وسيادة القانون على كامل الإقليم.
ثانيا:تقديم الخدمات العاجلة للمواطنين في الصحة والتعليم والمياه لإعادة الثقة بين الدولة والمجتمع.
ثالثا:تحييد شُعب أمن القبائل التي زرعتها إستخبارات جيش المركز لتغذية الصراعات.
رابعا:تبنّي مصالحة مجتمعية شاملة تقوم على العدالة وجبر الضرر لا على المحاصصات السياسية.
جوهر الأزمة ليس في دارفور، بل في المركز الذي لم يتقبل بعد أن”حميدتي” ابن البادية هو من فرض التغيير، وكسر إحتكار القرار السياسي، وأعاد توزيع موازين القوة داخل السودان.
عرمان وأمثاله من النخب المركزية ينظرون إلى تحوّل ميزان القوة بعيون الغيرة والخوف، لأنهم يدركون أن مشروع حكومة التأسيس يهدد إمتيازاتهم التاريخية التي بنوها على حساب الهامش.
إنّ الحرب في نظر هؤلاء ليست سوى محاولة يائسة لإستعادة مركزٍ فقد هيبته، لا لإنقاذ وطنٍ يبحث عن نفسه بعد عقود من التهميش والخذلان.
الحديث عن “الخطر الإثني” و”التدخل الخارجي” لن يبني وطنًا، بل يزرع الشك والخوف في نفوس السودانيين.
حكومة التأسيس، فهي اليوم أمام امتحان تاريخي:هل تحول الإنتصار العسكري إلى مشروعٍ لبناء مؤسسات الدولة؟ أم تتركه يذوب في فوضى الشعارات والتجاذبات بسبب ضغط إعلام البلابسة الكذوب؟
ما بعد الفاشر ليست لحظة الخوف كما كتب عرمان، بل لحظة الإنطلاق نحو السودان الجديد، إذا أُدير المشهد بحكمةٍ ورؤيةٍ وطنية.
قبل فوات الأوان فعلاً، يجب أن يدرك الجميع أن البلاد لا تحتاج لمن يدق ناقوس الخطر من الخارج، بل لمن يمدّ يده للبناء من الداخل.
ولنا عودة بإذن الله
السبت،١نوفمبر/٢٠٢٥م





