✍️أ -عزت خيري
شهد هذا اليوم تحوّلين كبيرين في مسار العدالة بالسودان، أحدهما دولي، والآخر محلي، وكلاهما يكشفان وجهين متناقضين لزمن واحد: زمن الحرب وزمن الحقيقة.
وهكذا، بينما تباشر العدالة العالمية خطواتها نحو الحقيقة، تتعثر العدالة الوطنية في فخاخ الانتقام، وتتحول ساحات القضاء إلى امتداد للمعركة لا استراحة للضمير.
فعلى منبر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، اعتمد العالم قرارًا بتمديد ولاية بعثة تقصّي الحقائق في السودان، مضمّناً إدانة صريحة للجرائم الفادحة التي ارتكبها طرفا الحرب، وداعيًا إلى وقفٍ فوريٍ للقتال، وإلى ضمان عبور المساعدات الإنسانية إلى المستحقين، دون قيدٍ أو وصاية سلاح.
ولم يكتف القرار بالإدانة، بل أشار بوضوح إلى الجهود المدنية الجارية لوقف الحرب، مخصّصًا فقرة للإشادة بتحالف “صمود”، مؤكّدًا ما ظللنا نكرره: أن خطاب الحرب خطاب مفلس، لا مشروعية له ولا مستقبل، وأن السلام، مهما ثقلت خطاه بالأشواك، هو درب النجاة الوحيد لهذا الوطن الجريح.
وفي ذات اليوم، جاء النبأ من لاهاي: إدانة المتهم علي كوشيب بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، عن دوره الدموي في حرب دارفور عام ٢٠٠٣. إدانةٌ تأخّرت، لكنها حين جاءت، نطقت بالحق في وجوه من ظنوا أن السلطة حصانة، وأن النسيان مغفرة.
وهنا، تتقاطع المحكمة الدولية مع ذاكرة أهل السودان: فدماء الأبرياء لا يطويها النسيان، والعدالة، وإن عرقلت مساراتها الأنظمة، تعود لتُسائل وتُدين، ولتُمهّد الطريق نحو تسليم من تبقى من الجناة، وعلى رأسهم عمر البشير ورفاقه، إلى ذات المحكمة، وليقفوا كما وقف كوشيب، ويواجهوا ما تهرّبوا منه حين احتموا بالمليشيات والجيوش.
وفي هذا السياق العاصف بين نهوض العدالة وتقلّص ظلّ الإفلات من العقاب، تطل علينا مأساة المحامي أبوبكر منصور، لا كحادثة فردية، بل كمرآة تعكس مفارقة سودان الحرب والانكسار.
فمن هو منصور؟ إنه ليس زعيمًا في حزب حاكم، ولا قائد ميليشيا، ولا متهمًا بالدم أو الفساد. إنه ابن مدينة سنجة، محامٍ يسكن مع والده التسعيني، يكدّ في طلب رزقه، ويُخصّص من وقته للعمل العام والنشاط السياسي والاجتماعي. لم يغادر مدينته حين اجتاحتها قوات الدعم السريع، بل بقي لأجل أبيه، ولأجل جيرانه.
في تلك الأيام الحالكة، لم يغلق بابًا، بل فتح صيدلية أسرته، يوزّع منها الدواء مجانًا على المرضى والمحتاجين، بعد أن تخلّت الدولة عنهم وتوارى الجيش. ظلّ بجانب والده يُمرّضه، وبجانب جيرانه يُواسيهم، في مشهد نادرٍ من الثبات والبرّ والشهامة، وسط عاصفة الفوضى والانهيار.
لكن حين عادت القوات المسلحة مسنودة بكتائب البراء بن مالك إلى المدينة، لم تُكرّم من صمد، بل اعتقلت من بقي. اعتُقل أبوبكر منصور، وذُبّح القانون على مرأى من الجميع.
ثلاثة أشهر من الاعتقال والتعذيب الوحشي داخل معتقلات كتائب البراء بن مالك، نُقل بعدها إلى المستشفى لتلقي العلاج، لكن بدل أن يُطلق سراحه، نُقل من سرير المستشفى إلى منصة المحكمة، ليواجه حكمًا بالإعدام!
ليصدر في ساحة المحكمة حكماً يُدان فيه من رعى المحتاجين من أبناء شعبه ووقف وسط النيران يسند كبار السن ويُطعم المرضى، ويُكافأ فيها الذين فرّوا من أرض المعركة وتركوا المواطنين العُزّل أمام تاتشرات الدعم السريع التي يقودها كيكل، في مشهد يسعى ليقلب الحق باطلاً والباطل حقًّا.
والأدهى، أن القائد الميداني الذي اقتحم المدينة على ظهر التاتشرات، أبوعاقلة كيكل، لم يُقدَّم للعدالة، بل عاد إلى الجيش، وصار أحد قادته، وتمّت ترقيته إلى رتبة لواء!
هكذا تُكافأ البنادق، وتُشنق الأخلاق.
هكذا ينقلب ميزان العدل: من يوزّع الدواء يُعدَم، ومن يوزّع الرعب يُكرَّم.
إن مأساة أبوبكر منصور لا تخصّه وحده، بل هي قضية شعبٍ يُعاقَب على إنسانيته، ويُداس على كرامته، في محاكم تدار بتوجيه أمني، وقرارات تصدر لتصفية الخصوم لا لإنصاف المظلومين.
وإن كانت لاهاي قد قالت كلمتها في كوشيب، فإن أعيننا على السودان، لتقول ذات الكلمة فيمن يعتقلون المحامين، ويستنطقون القضاة بتعليمات الأجهزة وهم في مأمن من المساءلة، وإن استغل القضاء المحلي في تصفية الخصوم، فإن طريق العدالة الدولية ما زال مفتوحًا، وأشد إلحاحًا من أي وقت مضى.
أطلقوا سراح أبوبكر منصور.
ألغوا حكم الإعدام فورًا، قبل أن يُنفَّذ باسم الدولة جريمة لا تُغتفر.
أما من يظنون أن الجرائم تُنسى، وأن دماء الأبرياء تُطوى بمرور الزمن، فليتّعظوا بكوشيب.
فالعدالة، وإن تأخرت، لا تسقط بالتقادم.





