بقلم / عمار نجم الدين

غداً سوف تصدر الحكومة قراراً جديداً بإزالة الأحياء العشوائية في الخرطوم. سوف تتحرك الجرافات إلى بيوت النازحين في مايو والعزبة وجنوب الحزام، وستُهدم مساكن الفقراء كما هُدمت من قبل في السبعينات والثمانينات والتسعينات. سيُعاد مشهد التهجير القسري الذي تكرر أكثر من اثنتي عشرة مرة منذ 1989، وكأن التاريخ يعيد نفسه في حلقة لا تنكسر ولا تعرف التوقف. لن يكون هناك إسكان بديل، بل وعود زائفة على الورق، بينما يُلقى بالفقراء في العراء ليبدأوا رحلة نزوح جديدة داخل عاصمة لا تعترف بهم ولا تراهم إلا كعبء.
في هذه اللحظة، سيظهر وزير الدفاع حسن كبرون، ابن جبال النوبة الذي صعد من صفوف المهمشين، ليعلن استمراره في سياسة الخراب. سيقول إنها “مساكن عشوائية”، بينما يعرف الجميع أنها مأوى الناجين من الحروب والبراميل المتفجرة، مأوى النساء الثكالى والأطفال الذين كبروا على وقع القصف والجوع. المفارقة المأساوية أن الرجل الذي يفترض أن يحمل ذاكرة الإبادة في دمه، صار أداة مطواعة في يد عبد الفتاح البرهان، يكرر مقولته الشهيرة في 2022: “الله خلقنا لنحكم الآخرين.”
كبرون لن يكتفي بالصمت على قتل أبناء منطقته، بل سوف يشارك فيه كما فعل في حرب الجنوب وجبال النوبة، فقد كان دائماً في ولاء مفرط للمركز، ينفذ أوامره بلا تردد حتى ولو كان الثمن دم أهله وأرضه. بيوت الصفيح التي تأوي نازحي النوبة ودارفور وكردفان ستُصوّر أمام شاشات التلفزة كـ“خطر استراتيجي”، والحل سيكون دائماً هو الهدم، بلا عدالة، بلا حقوق، بلا بدائل، كأن الخراب وحده هو السياسة الرسمية. ولو كان الأمر إسكاناً حقيقياً كالذي جُرّب في النموذج الإثيوبي لكان النقاش مقبولاً، لكن الخرطوم ستواصل طريقها المقلوب: تجويع الفقير، إذلال المظلوم، وتشريد المشرد.
غداً سيكتشف الناس أن هذه الدولة لم ولن تتغير. من إبادة جماعية في القرى والوديان إلى إبادة بطيئة في أطراف العاصمة، من قتل بالرصاص إلى قتل بالجوع والعراء. حسن كبرون سيظهر كحلقة جديدة في سلسلة طويلة من العملاء الذين يبيعون دمهم وذاكرتهم في سوق السياسة الرخيصة، مقابل كرسي هش وتافه تحت أقدام جنرال الرمال.
ولن يتوقف الأمر عند الهدم. في نفس اليوم ستصدر أوامر جديدة: تطويق حي مايو جنوبي الخرطوم، منع الدخول والخروج، وشن حملة مداهمات واسعة للتفتيش عن منقولات وأشخاص يُشتبه بصلتهم بالدعم السريع. المشهد سيبدو واضحاً للناس: أبناء الهامش سيُدفعون بالقوة إلى مواجهة بعضهم البعض. الدولة ستستخدم الفلنقيات، وستصنع من ضحايا الأمس أدوات لتنفيذ مخططاتها اليوم وغداً. إنها لعبة الخرطوم القديمة نفسها: إبقاء النيران مشتعلة في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، خدمةً لبقاء المركز وبقاء سلطته العنصرية.
وحين تتحول الضحية إلى جلاد، لن يبقى وجه للحقيقة سوى الخراب. وزير الدفاع حسن كبرون، وهو يفاخر بإزالة بيوت الفقراء ويشرف على مداهمات أحياء النازحين، سيكون مجرد شاهد زور على مأساة وطن كامل. هو الوجه الآخر لعبد الفتاح البرهان، وكلاهما الامتداد الطبيعي لدولة الخرطوم التي عاشت على الدم والتمييز والاستعلاء العرقي منذ الاستقلال وحتى اليوم.
هذه الدولة، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، ستسعى لجر ما تبقى من بيوت الفقراء معها إلى الركام، كأنها لا تستطيع أن تموت وحدها إلا وتجر معها الفقراء، المهمشين، والناجين من حروبها.





