بقلم احمد الحسن
أحدث مقال خطه الدكتور. الوليد ماديو، خبير الحكمانية ومستشار التنمية العالمية، ردود فعل متباينة حيث جاء المقال تحت عنوان (عن الخديعة الكبرى وذاكرة العنصريين الصغرى) ويقول الكاتب في قلب الأزمة السودانية الراهنة، يتجلى اختلالٌ عميق في الوعي السياسي والتاريخي، تجسّده بنية ذهنية مهيمنة في المركز الشمالي، اعتادت أن تتموضع كضحية بينما تتجاهل دورها البنيوي في تفكيك الوطن وجرّه إلى الهاوية.
العقل الشمالي:
“العقل الشمالي” لم تصنعه النخب الإسلاموية، لكنها استثمرت فيه واستغلّت لحظة ارتباكه بعد الحرب، حين أصيب بشلل عاطفي وذهني بسبب هول الجرائم والانتهاكات، التي لم تكن وليدة الفوضى، بل نتاجاً مباشراً لمخططات الإسلاميين الذين خلطوا الأوراق عمدًا، وأطلقوا سراح المجرمين، وورّطوا القوات النظامية كافة في خيانة الدولة والمجتمع.
تحالفت القوى التقليدية مع العسكر:
على طول الطيف الأيديولوجي — من الشيوعي إلى البعثي إلى اليميني والطائفي — تحالفت القوى التقليدية كلها مع المؤسسة العسكرية، لا باعتبارها حارسًا لمصالح الأمة، بل ضامنًا لمكاسبها السلطوية.
فلم يكن الجيش أداة لحماية الوطن بقدر ما كان ملاذًا أخيرًا لنظام اجتماعي آخذٍ في التفكك. وكان من الممكن إعادة تعريف العلاقة مع الجيش بعد الثورة، بفرض قيادة مدنية تُخضع لجنة الأمن والدفاع لرئيس الوزراء، لكن ضعف أداء القيادة المدنية وتواطؤها مع قوى الهبوط الناعم مهّد الطريق لانقلاب العسكر، الذين أغرتهم الخلافات البينية وشجعهم تهافت القوى المدنية، فتمادوا في غيّهم وضلالهم دون رادع.
أزمة العقل السياسي:
إن الأزمة الحقيقية ليست في الأشخاص أو التنظيمات، بل في العقل السياسي العقيم، الذي تعامل مع الحكم كتوازنات ظرفية لا كفرصة لاجتثاث البنى العميقة للدولة، وتفكيك شبكات الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية. ولولا ذلك، لكان بالإمكان الاستفادة من لحظات الثورة المتكررة (أكتوبر وأبريل وديسمبر)، لكن الجديد هذه المرة أن الريف لم يعد هامشًا سهل الترويض، بل قوة واعية، تملك أدوات التنظيم، وتعرف كيف تفضح الهيمنة وتكشف أساليبها الملتوية.
الشعبية شمال طليعة الريف الجديد:
وعلى هذا الأساس، لا يمكن فهم الحركة الشعبية شمال إلا بوصفها طليعة لهذا الريف الجديد، في مقابل قوات الدعم السريع التي خرجت، ولو مؤقتًا، من عباءة التوظيف السلطوي، لتطرح نفسها كفاعل سياسي يبحث عن موقع له في مشهد وطني مغاير. وقد تخلل مسارها تجاوزات فادحة لا تُعزى فقط للعنصرية، بل لأخطاء فعلية ارتكبها جنودها في الجزيرة وأم درمان، غير أن الهجوم المتواصل عليها من النخب المركزية لا يخلو من نوايا تبريرية تنزع عن الآخرين مسؤولياتهم، خاصة الجيش، ومغرِضة تُلقي بالجريرة على الريف الغربي ككل.
معادلة الوطن الجديد:
لقد تغيّر السودان، ولم تعد هذه النخب قادرة على خداع أحد، لا بخطابها المتعالي، ولا بحنينها إلى “لحظات الصفاء” التي لم تكن إلا لحظات احتكار وهيمنة واحتقار للآخرين. وإذا لم تتوقف عن هذا الانكفاء المرضي(Pathological withdrawal)، فستجد نفسها — هذه النخبة — خارج معادلة الوطن الجديد، معزولة، مشلولة، تندب ذاكرة لم تعد تهم أحدًا.
مصلحة الشرق في ارتباطه بغرب البلاد:
المصلحة الحقيقية للشرق تكمن في الارتباط العضوي بغرب السودان، لا بالتماهي مع مركز بات مريضًا وغير منتج. مد خط سكك حديدية يربط بورتسودان بالجنينة، مثلاً، سيحدث تحولًا جذريًا، ويعيد السودان للعب دوره كممر حيوي لأسواق أفريقيا المأهولة بما يقارب 400 مليون نسمة كانت تعتمد على صادرات السودان قبل أن تدمّر الإنقاذ 22 ألف مصنع في الخرطوم في واحدة من أفظع جرائمها الاقتصادية، وذلك قبل الحرب.
تحرير الشمالية من الكيزانية:
الشمالية، كما الجنوب والشرق والغرب، بحاجة إلى من يُحرّرها من سلطة كيزانية مشبعة بالعنصرية والجمود، لكنها فضّلت أو آثرت التماهي تُقيةً مع خطاب الإسلاميين الإقصائي البليد. أليس هذا هو الشعب الذي أنجب حميد والطيب صالح والصادق الشامي، وحيدر إبراهيم وأزهري محمد علي، وكل الذين أسهموا في إثراء الفكر والثقافة ومناهضة الاستبداد؟ هؤلاء لم ينكفئوا على أقاليمهم، بل مدّوا الجسور مع سائر السودان، وأدركوا أن الهوية لا تتجزأ، وأنّ لا مستقبل لشعب يتخاصم مع نفسه ومع سائر مكوناته.