بسم الله الرحمن الرحيم
د. جودات الشريف حامد
باحث بالمركز الأفريقي للديمقراطية و التنمية
كما زكرتُ في مقالات سابقة، فإن ما تعرضت له قوات-الدعم-السريع من غدر و خيانة على يد الجيش وفلول النظام البائد لم يكن محض صدفة أو خطأ تقديري، تكتيكي، بل كانت عملية محسوبة و ممنهجة ومخططٌُ لها بدقة عالية،غاية السؤ منها هي إنهاء وجود الدعم السريع عسكرياََ خلال ساعات محدودة أو أيام معدودات كما توهم الفلول مكراََ، عبر ضربات خاطفة إستهدفت مقاره و ثكناته و قياداته.هذا السلوك الغادر الذي إتخذ طابع المفاجأة و الخيانة، كشف منذ الوهلة الأولى للحرب عقلية الفلول الإنقلابية عبر تاريخهم و هي عقلية مريضة و موتورة، لا تؤمن بالشراكة في الوطن أو إحترام المواثيق و الوعود و التفاهمات، الأمر الذي أعاد إلى أذهان قطاعات واسعة من الشعب السوداني ممارساتِِ ظَنَ من خلال ثورته-ثورة ديسمبر إنه قد تجاوزها و إلي الأبد.*
*و قد كانت حصائل هذا الغدر و الخيانة على الوطن و الشعب كارثية بكل المقاييس، إذ تسببت في نسف عملية الإنتقال السياسي التي كانت جارية، و تحول المشهد برمته إلى ساحة يتحكم فيها منطق القوة و العنف و الإرهاب و التطرف، و هو الطريق الذي أختاره الفلول ليعودوا عبر بوابته إلى السلطة، سعياََ إلى إعادة إنتاج ممارسات القهر و الإستبداد التي ثار عليها الشعب فأسقط محتكريها ( النظام البائد).*
*لكن لم تسر الأمور كما إشتهى الفلول، و لا كما تمنُوا على الله الأماني، بأنها مجرد ساعات أو أيام و يستعيدون فيها سلطانهم الذي أفل نجمه بأمر إرادة الشعب الثورية. فقد إنقلبت موازين القتال علي نحوِِ لم يكن في حسبانهم، و أنقلب السحر على الساحر، إذ حققت قوات-الدعم- السريع إنتصارات نوعية على تشكيلات الجيش المختلفة بما فيها سلاحي المدفعية و الطيران اللذين كان يعول عليهما الفلول في حسم المعركة و الإسناد الذي وفرته لها كتائب الفلول الإرهابية، كان إنتصاراََ حاسماََ أحرجهم و أخرجهم من دائرة الفعل العسكري و مباغاتاته في سوح المعارك.و بينما كانت المعارك على أشدها في الميدان صمتت غالبية النخب السياسية، أو إكتفت بالمراقبة من خلال حُجُب الإنتظار و الترقب كأنما الأمر لا يعنيها في شىء، هذا الصمت الذي وصل إلى مرحلة التماهي التام مع مواقف الخذلان (الفلول) قد طرح أسئلة حقيقية و منطقية حول طبيعة الإصطفاف السياسي منذ إطلاق الفلول للرصاصة الأولى في هذه الحرب-ومدى إستعداد هذه النخب لتحمل مسئولية الإنحياز لقضايا الوطن و الشعب، لا لمواقع السلطة.
لقد بدت النخب السياسية المركزية في منعطف سياسي تاريخي كانت سانحة لها لإختبار معدنها الوطني- لكنها للأسف كعادتها ظهرت مرتبكة، تائهة، متشظية، بل عاجزة عن إتخاذ موقف واضح حيال ما يجري في الوطن عسكرياََ وسياسياََ.البعض غلف صمته المشبوه بحجج الحياد الزائف، والبعض الآخر إنكفأ على ذاته، يحسب مقادير المكاسب و الخسائر في ظل واقع عسكري تتعذر فيه رؤى اليقين- ظلت النخب تفعل ذلك كأنما الثورة التي كانوا يتغنون بها نفاقاََ، كانت سياسية لا نضال شعب- أما الأخطر، فهوأن كثيرين قد تحولوا إلى أبواق للتضيل و سنداََ للفلول، تارة بإسم دعم الجيش و تارة بإسم الحفاظ على الدولة- وهنا تشرئب أعناق التساؤلات المنطقية-هل هذه الظاهرة النخبوية المتماهية مع خط الفلول كانت يوماََ جزءاََ من حلم الشعب في التغيير الجذري لبنية دولة ما قبل 15 أبريل- أم كانت دائماََ تحرس بوابات العودة إلى الوراء ؟.
تبقى مواقف النخب السياسية المخذلة خلال عامين من حرب 15 أبريل محل محاكمة تاريخية و مساءلة أخلاقية و محاسبة سياسية- حيث يتعين على الشعب السوداني و على وجه التحديد شعوب الهامش الأدنى و الأقصى-أن تستخلص منها دروساََ و عبراََ بما يُفيد أن هذه النخب برؤاها “المستهبلة” و أطروحاتها البالية التي أقعدت السودان لعقود، لم تعد محل ترحاب أو قبول، و لم تعد صالحة لقيادة مشروع الدولة السودانية الجديدة- بل إن قطاعات الشعب التي تقاطر ممثليها بالآلاف إلى العاصمة الكينية نيروبي لحضور التوقيع على ميثاق السودان التأسيسي “تأسيس” و التي دفعت أثماناََ تراكمية باهظة في سبيل التغيير، هي المؤتمنة والأولى بالثقة والأحق بالقيادة في مسيرة بناء سودان جديد، أكثر عدلاََ و تمثيلاََ و صدقاََ مع تطلعات أبنائه.
إن معركة الوعي لبناء سودان مدني ديمقراطي لا تقل أهمية عن معارك السلاح، و من لا يرى في تضحيات و نضالات الشعب السوداني إعلاناََ لنهاية عهد النخب المركزية فهو إما جاحد أو واهم. لقد آن أوان أن يتقدم الصفوف من ضحي و دفع الثمن، لا من ظل يستبقي إستدامة سلطته على حساب دماء الشعب. فالسودان الجديد الذي أُعلنت شهادة ميلاده في ميثاق نيروبي لن يُبنى إلا بإرادة جديدة و قيادات جديدة وُلدت من رحم النضال و المعاناة، لا من صالونات النخب القديمة و أسواق نخاستها السياسية.