نجم الدين دريسة
خطابات “عمسيب” ما هي إلا تعبير حقيقي عن طرائق تفكير الدولة العنصرية الاستعمارية، وبالتالي فالعمسبة ليست سلوكًا معزولًا، بل هي حالة ذهنية ترتبط بالجهاز المفاهيمي لمعظم القبائل النهرية. وإن كان لفظ “قبائل” يعبر عن حالة اجتماعية متقدمة، لأن القبيلة هي كيان سوسيولوجي يتكئ على قيم ثقافية وأخلاقيات وأنماط حياة ومؤسسة لسلوك موروث وعادات وتقاليد تقوم على السمو الأخلاقي والقيمي، وهي بالطبع تكاد تكون غائبة تمامًا عن الكيانات العمسيبية العنصرية والتي ظلت تعيش على حالة من الأوهام الغبية القائمة على افتراضات التفوق الذهني لهذه الأقليات المسكونة بالنزق والمسببة لكل الأزمات التاريخية المتراكمة… حيث ظلت تعمل على تزييف التاريخ بشكل ينم تمامًا عن غياب الوازع القيمي والأخلاقي. الأمر يؤكد أن مفهوم الدولة في السودان أصلًا لم يقم على أي حوامل موضوعية، بل تأسس على عنصرية بغيضة مارستها بعض المجتمعات التي تآمرت ضد مكونات أصيلة هي شعوب الهامش، ووظفت حالة ارتهانها للمحتل لقمع الكتلة الحرجة وطيف عريض من المجتمعات من خلال آليات السلطةالتي مارستها بشكل قبيح لتركيع وإذلال هذه المجتمعات.
إنني اليوم، في هذا المقال، أبعث بمناشدة لكل الهامش العريض، وتحديدًا الذين حظوا بتأهيل معرفي وأكاديمي وثقافي ومفاهيمي، ألا يقبعوا ولا يركنوا للظلم والتهميش الذي ظل يطال مجتمعاتهم، وألا يتموضعوا مع الدولة العنصرية الاستعمارية القاتلة الفاسدة الباطشة والمزيفة للتاريخ… ما قادني للكتابة ليست خطابات “عمسيب” التي عايشناها في كل مؤسساتهم العنصرية، بل كثير من الحكاوي والمواقف التي تقف شاخصة وشاهدة على العنصرية والتمييز لهذه المجتمعات التي أذاقت معظم الشعوب السودانية كل صنوف العذاب باحتكارها للسلطة وعنف الدولة من خلال جيش “البازنقر” الذي ظل لمدى سبعة عقود يمارس القتل والانتهاكات والفظائع ضد شعوب الهامش. فبالرغم من تنامي حالة الوعي لدى هذه الشعوب والمجتمعات المهمشة، إلا أن عقلية “النهري” ظلت على ما هي عليه، وهذا ما يدحض افتراءاتهم بالتفوق الذهني أو العقلي، كما ظل يردد “عمسيبهم” الذي ظل يعقد مقارنات سخيفة بين النهريين وغيرهم من الهوامش المختلفة، حيث أشار بشكل ينم عن منتهى الخسة في معرض حديثه عن فيصل العجب وهيثم مصطفى، مؤكدًا أن هيثم تكتيكيًا أفضل من العجب لأنه يلعب بعقله، بينما العجب يعتمد فقط على بدنه. وهذه المقارنة ليست سخيفة فحسب، بل تثبت حقيقة مفادها أن هذه الذهنية المستهبلة هي التي ظلت تتحكم في الشأن السوداني، ومضى بها الأمر مبلغًا أن نسبت حتى اللقب الذي فاز به السودان في بطولة الأمم الأفريقية للوجود النهريين. بالطبع، هذه فرية تشبه أكاذيبهم التي ظلوا يرددونها على مدى عقود طوال.
هنالك حكاوي يشيب لها الولدان، وطرائف ونوادر حقيقية، وقصص من الواقع تؤكد أن النهريين ظلوا يعمدون على ممارسة الاستعلاء للدرجة التي يمجدون فيها كياناتهم الاجتماعية على ضعفها واهترائها بشكل غريب. فقصة “الغرابي” الذي تزوج من نهرية وعندما سئل أبناؤه عن قبيلتهم قالوا: “نحن شوايقة لكن أبونا ما مننا”. وقصة أخرى حكاها لي شخص أثق في روايته تمامًا أن آخر تزوج بنهرية وهاجرا إلى أمريكا، وعادت زوجته إلى السودان وظل هو يعمل من أجل توفير ظروف أفضل لأبنائه بعد عودته للسودان، وظل لسنين طويلة يرسل لإخوان زوجته لشراء منزل وتشييده. وعندما عاد اكتشف حقيقة مؤلمة أن تم خداعه وتم تسجيل البيت باسم زوجته، ولم ينكشف هذا الأمر إلا إثر خلاف نشب بينهما فطلقها، فما كان منها إلا طردته شر طردة، وصار جزاؤه كجزاء سنمار. وهنالك مئات القصص تحكي عن واقع أليم… وهنالك واقعة أخرى حدثت مع مبارك الفاضل إبان مؤتمر سوبا الذي قاد فيه انشقاقه ضد الصادق المهدي، حيث ظل وقتها عبد الرحمن يتحكم في دخول وخروج الأحباب بدار الحزب بحسب التصنيف مع وضد، وقتها أشار مبارك: “ما في داعي لوجود جيش في دار الحرب، خلونا نشوف لينا اتنين من البقارة ديل لحراسة الدار”، لأن في مؤخرة ذهنه أن هؤلاء لا يصلحون إلا لمثل هذه الوظائف، وهو نمط استعلائي لدى عدد غير قليل من النهريين المنبتين. وهذه الحرب أيضًا أظهرت مواقفهم بشكل ليس فيه مواربة ولا خجل، لأنهم لا يعرفون الحياء أصلًا، يمارسون كل أشكال التناقضات وازدواجية المعايير، فتجدهم يتحدثون عن “الشفشفة” ولا يرف لهم جفن للجرائم والمجازر البشعة التي ترتكب بحق الأبرياء، بل يحتفون بهذه الممارسات الشنيعة. تجدهم يصرخون ويتوحوحون ويمارسون كل أنواع البكائيات لوجود رجل سبعيني مستنفر إرهابي قبض من لحيته، ويغضون الطرف عن عشرات المسنين الذين تمت تصفيتهم وعشرات الآلاف ممن يتم قصفهم بشكل يومي من قبل طيرانهم وهم يطربون لذلك ويطلقون على طياريهم لقب “صانعي الكباب”، كأنهم يقولون هؤلاء يستحقون الموت، ما لكم كيف تحكمون.
رأينا كيف كانت أقلامهم تنهش في الدكتور خبير الحكمانية الوليد مادبو عندما صدح بقول الحق وظل يكشف زيف دولتهم، وظفوا كل كوادرهم الإعلامية وحتى المتماهين مع دولتهم من أبناء الهامش العريض لمواجهة مادبو، ولكن كان دومًا يخرج الوليد بحججه وأسانيده القوية، فالرجل مثقف عضوي أرادوا النيل منه ولم يفلحوا، ولم تشفع له خؤلته لأن الوليد من أم نهرية… حتى لا أطلق الكلام على عواهنه، هنالك نهريون يفكرون بطرائق مختلفة وظلوا يجابهون المواقف العنصرية للدولة الاستعمارية، ولكنهم قلة ومحدودو الأثر… كما أن هنالك مثقفين من أبناء العريض يعانون من حالة من السيولة، تم تدجينهم واستلابهم لخدمة الدولة الاستعمارية إما بدوافع انتهازية محضة أو بسبب الخوف من الوصم بالعنصرية.
المؤسف جدًا أن التزييف الذي حدث لدولة عبد الله ود تورشين حقيقة مدهش، ففي وقت كان الخليفة هو بمثابة قائد التحرر الوطني، وطبيعي جدًا أن يأمر عبد الله ود سعد بإخلاء المتمة خاصة بعد التخابر المعروف الذي ظلت تمارسه الكيانات الاجتماعية التي ظلت تعادي الدولة المهدية الوطنية، حيث كانت معظم قبائل النهر وقتها طابورًا خامسًا ومتعاونة مع المحتل الأجنبي. ما قام به محمود ود أحمد سلوك أكثر من طبيعي، لكنهم زيفوا التاريخ، وهنالك حديث وقوع نساء في البحر حسب الرواية الشعبية التي حكاها لي أحد أبنائهم، فقط ثلاث نساء وكن خائفات وتم إخراجهن من البحر، ولكن فكرة شيطنة دولة البقارة والجهادية وغيرها من الأوصاف تمت مع الترصد وسبق الإصرار بدوافع عنصرية بحتة. حتى أن الشاعر الحاردلو الذي ذاع صيته فقط لأنه قال عن أهلنا “الحيمات” والغرابة عمومًا شعرًا أقل ما يوصف بأنه خطاب كراهية حيث قال:
ناسا قباح من الغرب يوم جونا
جابوا التصفية من البيوت مرقونا
أولاد ناس عزاز متل الكلاب سوونا
يابا النقيس يا الانجليز ألفونا
محاولة لتشويه صورة “الغرابي” والاستنجاد بالمحتل والتعاون معه للقضاء على دولة الخليفة. والمؤسف أن ما حدث في كرري ظل مسكوتًا عنه، لكنها كانت أسوأ مجزرة في تاريخ البشرية تفوق الهولوكوست، لذا لا تندهشوا من هذه الفظائع البشعة، هؤلاء تمت تغذيتهم بتاريخ مزيف ومفاهيم خاطئة ومصنوعة، وللأسف لا يزالون محنطين في الأقبية التاريخية الماضوية، فلا غرو أن تجد الدولة المصرية ضالتها في هذه العقلية المريضة التي تكن كل هذا العداء السافر لطيف عريض من الشعوب السودانية.
وسيعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون.