النساء السودانيات متدينات بعمق كأن تلك الخصلة وراثية من الأجداد. يحتفظن بصلواتهن وعباداتهن، ويقوم العديد منهن بالصيام تطوعًا خلال أيام المناسك المتعددة. ويبدو لي أن في كل أسرة سودانية تكون المرأة، سواء كانت الأم أو الأخت، هي الدافع الأول للأطفال لتعلم الصيام وتحمل الجوع والعطش، خصوصًا في أجواء السودان الحارة.
يعتبر الكثيرون الصيام في السودان بمثابة اختبار حقيقي للرجولة، حيث يُشار إلى الشخص الذي لا يصوم بأنه “سيد جرسة”، ويُعتبر رمزًا للجبن والخوف.
لنساء السودان قول مشهور يوجهنه لكل صغير يسير في طريق الصيام، حيث يسعدن في نصحهن: “الصيام يقين يا ولدي”، وهن يقصدن أن إيمانك وتصديقك هو ما يجعلك ملتزمًا بالصيام ويبعدك عن الوقوع في فخ العصيان و”الإفطار في النهار” بمبررات ضعيفة تقنع بها نفسك.
يعتبر الصيام في السودان، بالإضافة إلى كونه واجبًا دينيًا، ميدانًا حقيقيًا لقياس الرجولة. فالشخص الذي لا يصوم يُنظر إليه على أنه “سيد جرسة”، أي جبان وكثير الخوف. قد تجد فردًا ضعيف الإيمان لا يؤدى الصلوات الخمس أو يقوم بها بشكل متقطع، لكنه يصر على الصيام دون تراجع، بل قد يصوم شهر رمضان بالكامل دون صلاة، تحت وطأة الجوع والعطش، لأنه يعتقد أن هذا يعبّر عن “الرجولة”. أما أن يُطلق عليه لقب “جرسة” أو “فاطر رمضان” فيعتبر ذلك أمرًا مستحيلًا. وعندما تسأله عن سبب صيامه، فإنه سيجيب مؤكدًا: “الصيام يقين!”، وغالبًا ما يكون هذا المعنى غير واضح في ذهنه، مرتبطًا بالشجاعة والبطولة أكثر من كونه متعلقًا بالإيمان والعبادة. فإذا كنت أنت واثقًا تمامًا بإيمانك ومكافأتك، فهو يحمل يقينًا قويًا بشأن “رجولته” وقدرته على التحمل والتحدي.
قد يكون رمضان هذا العام صعبًا على السودانيين. خصوصًا الذين يعيشون في مناطق النزاع الملتهبة، مثل العاصمة الخرطوم وكردفان ودارفور، أو الذين forcedهم الوضع الحرب على النزوح والعيش في مراكز الإيواء بالمناطق الآمنة، حيث يواجهون ظروفًا قاسية تتمثل في قلة الغذاء ونقص المال، بالإضافة إلى انتشار الأوبئة والأمراض.
سيشعر الكثيرون هذا العام بفقدان “كرتونة رمضان” بما تحتويه من أطعمة رمضانية ذات النكهة السودانية الفريدة، تلك التي تأتي كهدية من المحسنين أو تلك التي تُخصص من الراتب الشهري، إذا كنت موظفًا أو عاملاً في المؤسسات الحكومية أو الخاصة. فكل شيء في أرض الحرب متوقف ويعاني من الشلل والاضطراب.
لكن من المؤكد أن “اليقين” – بمعنى الإيمان والتسليم والثقة في الله – سيقود الجميع إلى بر الأمان، بدءًا من فترة الصيام التي تكون بين الإمساك وأذان المغرب، وانتهاءً بعيد الفطر بعد مرور ثلاثين يومًا، وهي الأيام الكاملة للشهر الفضيل.
ما تعرفه الأسرة السودانية لصغارها الذين يسيرون في طريق العبادة الرمضانية، إلى جانب “اليقين” الذي يحميهم من الخطأ أثناء الصيام، هو نشر روح السخاء والكرم. فعبارة “رمضان كريم والبحبو كريم” تعني أنه يجب عليك إظهار هذا الكرم، وليس شخصاً آخر غيرك. لذا، في كل جزء من أرض السودان، سواء كانت قرية أو مدينة، تجد الشوارع مليئة بالمفطرين في ساحات “الضرا”، حيث يخرج الجيران وكل منهم يحمل طعامه. يتوافد الأهل والأغراب، ودائمًا ما يكون هناك شيخ أو شاب شغوف يقف في الطريق ليقول للمارّة: “حرام أن تفطروا بدوننا”.
في رمضان هذا العام، كما كان الحال في رمضان العام الماضي، ولكنه بالتأكيد أكثر قسوة؛ يواجه السودانيون شهر الصيام في ظل الظروف الصعبة التي أصبحت نتيجة الحصار وانعدام الموارد أمراً يومياً. إن المطابخ الجماعية، التي تعد من إرث التكايا الصوفية المجيد، هي التي أمدت السودانيين في الداخل بالدعم لمواجهة شبح المجاعة الذي يهدد الجميع.
أعلنت غرف الطوارئ، التي تدير التكايا، عن توقف شبه كامل لأغلب مطابخها في العاصمة الخرطوم وبعض المناطق الأخرى في البلاد. ويعود ذلك لعدة عوامل، بعضها داخلي ناتج عن تصاعد حدة المعارك، والبعض الآخر خارجي يتعلق بتوقف التمويل من الجهات الأجنبية التي كانت تلعب دوراً مهماً في تشغيل هذه المطابخ. فكيف سيكون شهر رمضان هذا العام؟ بالتأكيد، ستحصل على الإجابة بـ”اليقين والكرم” إذا سألت أي طفل من أطفال السودان.
سيتجمع السودانيون في الداخل والخارج لدعم مطابخهم بالمواد الغذائية والمال. سيرتفع الرزق الحلال كما هو معتاد عند السودانيين في هذا الشهر المبارك. ستشعر البطون بالجوع وستتوق الحناجر للماء حتى موعد الإفطار، لكنهم سيعتبرون ذلك مجرد تدريب، وتذكير ديني وتربوي يجسد الصبر وتحمل المشقات، مع رؤية “يقينية” لما تعاني منه البلاد والعباد. وإذا طال الزمن أو قصر، ستنتهي الحرب ويختفي الألم، وستعود إلى النفوس الروح المتعطشة للعبادة مع كل بداية لشهر الصيام.
أتذكرون تلك اللقطات العفوية التي كانت تُعرض في كل رمضان، والتي تم التقاطها من الشوارع الرئيسية المؤدية إلى ولاية الجزيرة؟ تلك التي اختفت في العام الماضي بسبب تشتت أهل الجزيرة النازحين والمشردين في مختلف أنحاء السودان بعد احتلال أراضيهم والتنكيل بهم. هذا العام، ستعود هذه المشاهد وستشعر بها، حيث عادت أهل القرى إلى ديارهم و”أرض المحنة” ولاية الجزيرة لا تزال مليئة بالخير والمحبة.