بقلم عمار نجم الدين
—————-
الحديث عن الجيش السوداني، كمؤسسة عسكرية ذات جذور تاريخية، يستدعي قراءة تفكيكية تتجاوز المظاهر السطحية للأحداث، لتتعمق في البنية السياسية والفكرية التي شكلت هذا الكيان. فمنذ تأسيسه، لم يكن الجيش السوداني جيشًا وطنيًا بحق، بل ظل أداة بيد النخب المركزية، تستخدمه لتعزيز أجنداتها السياسية والعرقية، متجاهلة حقوق شعوب الأطراف المهمشة.
منذ الاستقلال وحتى اليوم، ارتكب الجيش السوداني انتهاكات جسيمة بحق شعوب الهامش، شملت القتل، الاغتصاب، الحرق، والإبادة الجماعية. هذه الجرائم لم تكن استثناءات عابرة، بل سياسات منهجية تعكس عقيدة عسكرية ذات طابع عنصري. على سبيل المثال، حادثة قرية “تابت” عام 2014، حيث اغتُصبت 200 امرأة وفتاة تحت إشراف مباشر من ضباط الجيش السوداني، دون مشاركة مليشيات أو جهات أخرى.
تقول منظمة هيومن رايتس ووتش
((قامت قوات الحكومة السودانية بارتكاب عمليات الاغتصاب الجماعي والانتهاكات الأخرى خلال ثلاث عمليات عسكرية محددة استهدفت بلدة تابت خلال فترة 36 ساعة: بدأت العملية الأولى مساء الخميس 30 أكتوبر/تشرين الأول؛ والثانية صباح الجمعة 31 أكتوبر/تشرين الأول؛ وبدأت الثالثة مساء نفس اليوم واستمرت حتى صباح اليوم التالي، 1 نوفمبر/تشرين الثاني.))
كذلك، نجد تاريخًا حافلًا بالقصف العشوائي وحرق القرى في جبال النوبة منذ التسعينيات.
هذه الانتهاكات تكشف عن البنية “النخاسية” للجيش السوداني، حيث استُخدمت النساء الأفريقيات كرقيق حرب، تُقسم بين الجنود والضباط، مما يعيد إنتاج نظام اجتماعي تاريخي قائم على الاستغلال العرقي. الجيش لم يكن مجرد أداة قمع عسكرية، بل مؤسسة لإعادة إنتاج الهيمنة المركزية على حساب الأطراف.
ومن زاوية تفكيكية، يمكن قراءة تناقض النخب المركزية المثقفة في تعاطيها مع جرائم الجيش. عندما كانت الانتهاكات تُمارس ضد شعوب الهامش – جبال النوبة، النيل الأزرق، دارفور، وجنوب السودان – اقتصر دور هذه النخب على مظاهرات خجولة وندوات في عواصم أوروبية، أو كتابة مقالات لم تتجاوز حدود “الكشكرة”، دون اتخاذ مواقف عملية أو جذرية. لكن اليوم، ومع اندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، نجد هذه النخب تنخرط علنًا في دعم الجيش، متجاهلة تاريخه الملطخ بالدماء.
هذا الاصطفاف مع الجيش يعكس حقيقة واضحة: للمرة الأولى، يدافع الجيش السوداني عن مصالح المركز ونخبه بشكل مباشر. هذه اللحظة تكشف أن الجيش لم يكن يومًا قوميًا لكل السودانيين، بل مؤسسة عرقية بُنيت لخدمة فئة محددة.
تماهي النخب المركزية مع الجيش، رغم تاريخه، يعكس تواطؤًا هيكليًا، يظهر في خطاب يبرر الجرائم السابقة كأخطاء فردية أو تجاوزات عرضية. لكن حينما يتعلق الأمر بالمركز، يتحول الخطاب إلى مواقف مبدئية تدين الانتهاكات وتدافع عن المواطن.
الجيش السوداني، كغيره من مؤسسات الدولة المركزية، يحتاج إلى تفكيك شامل يعيد تعريف مفهوم الجيش الوطني. هذا التفكيك لا بد أن يشمل محاسبة الجرائم التي ارتكبها الجيش والمليشيات التابعة له، بما فيها قوات الدعم السريع التي تمثل امتدادًا طبيعيًا لعقيدة الجيش.
إن بناء مستقبل السودان يتطلب خطابًا صادقًا وشاملاً، يتجاوز التمييز بين دماء المركز والهامش، ويؤسس لمشروع وطني حقيقي، يكون فيه الجيش معبرًا عن جميع السودانيين بلا تمييز.
عمار نجم الدين.