✍️د. النور حمد
سافرت في هذا العام، الذي يشرف هذه الأيام على الإنتهاء، إلى شرق إفريقيا مرتين ، حيث زرت كلاًّ من يوغندا وكينيا. في المرة الأولى كان الناقل الجوي الذي سافرت عليه هو الخطوط الجويه الإثيوبيه . وقد جعلني ذلك أمكث لبضع ساعات في مطار أديس أبابا لأنتقل من طائرة إلى أخري. وأمكث في المرة الثانية لساعاتٍ طويلةٍ في مطار إسطنبول.رأيت في هاتين السفريتين ، مدينتين هما كمبالا ونيروبي. ورأيت أربعة مطارات هي مطار أديس أبابا ، ومطار عنتيبي ، ومطار جومو كنياتا في نيروبي ، ومطار اسطنبول الجديد الضخم المدهش . ما خرجت به من هاتين السفريتين هو المزيد من التأكيد لحقيقة ترسَّخت لديَّ، منذ بضعة عقود، وهي : أن بلادنا من أكثر بلدان العالم تخلُّفا”.
المدهش والموجع حقًا أن هذا التخلف ليس مشعورا” به وسط نخبنا السياسيه وكذلك وسط عامتنا بالقدر الذي يبعث على شحذ الهمم للعمل على ردم هوته التي لا تنفك تتسع بيننا وبين العالم المتوثب. بل حتى بيننا وبين دول الجوار.الأدهى والأمر، أننا لم نقف عند حد الركود والتقهقر لنحتل ذيل القافلة البشرية التي تثب إلى الأمام وثبًا وحسب، وإنما أنهينا مسلسل عبادة التخلُّف والدفاع عنه، وتزيينه لأنفسنا ، إلى الإنزلاق في أتون هذه الحرب المدمرة ، لم تشهد البلاد لها مثيلا” في كل تاريخها الطويل. لقد شهدت بلادنا حروبا” كثيره. بل إن تاريخنا المعاصر ليس سوى سلسلةٍ من الحروب، إمتدت من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين . غير أن حروب الماضي تلك قد كانت، جميعها، بأسلحةٍ قليلة الفتك. أما الحرب التي تجري الآن فإن أسلحتها من النوع الشديد الفتك، كما أنها إنتشرت في كل أقاليم البلاد . ويكفي أن هذه الحرب قتلت في عامٍ واحدٍ فقط مئات الآلاف وهجَّرت ما يزيد عن 12 مليون شخص.
لقد سبق أن زرت كمبالا ونيروبي قبل سبع أو ثمان سنواتٍ ، وحين زرتهما مرتين هذا العام رأيت تقدُّما أدهشني وجعلني أحَارُ في حالنا المزري، الذي لا ينفك يتفاقم.لقد أصبح للمدينتين؛ نيروبي وكمبالا، طريقٌ سريعٌ من أربع مسارات، يربط مطاريهما اللذين يبعدان عشرات الكيلومترات بوسط المدينتين . بل إن الطريق السريع من مطار نيروبي قد أصبح معلقا” فوق أعمده وهو يخترق وسط المدينه . كما أن مطاري عنتيبي ونيروبي جرى تحديثهما في هذه الأعوام القليله،وزيدت سعتهما وأصبحا مثل خلية النحل . أما مطار أديس أبابا فقد إتسع بصورةٍ مذهلةٍ في الأعوام العشرة الماضية. بل رغم ما جرى من توسيعٍ كبيرٍ له ، فإن شركة الخطوط الجويه الإثيوبيه، وهي مؤسسة حكومية، قد وقَّعت عقدًا لإنشاء مطارٍ جديدٍ تماما”، يبعد حوالي أربعين كيلومترا” عن المدينه، تصل كلفة إنشائه إلى 6 مليارات دولار. وتطمح الشركة لأن يبلغ عدد الركاب الذين يعبرون من هذا المطار الجديد 100 مليون راكبا” في السنه. وقد صرح الرئيس التنفيذي لمجموعة الخطوط الجويه الإثيوبية، ميسفين تاسيو، أن الخطوط الجوية الإثيوبيه تسعى إلى زيادة وجهاتها إلى 207 على مستوى كل القارات،وإلى زيادة عدد طائرات أسطولها ليصل إلى 271، وفقا” لما أسماه “رؤية 2035.”
في كل من يوغندة وكينيا الحياة مستقرة وإيقاعها متوثب؛ لا صفوف، لا أزمات، لا زعيق،لا عواء فارغ،لا توتر. السياح يفدون بالملايين والفنادق التي تُعد بالمئات تغصُّ بهم وتخدمهم على أفضل صورة. هذه الأقطار أصبحت في وحدةٍ إقتصاديةٍ عضويةٍ مع العالم ، شأنها شان دولٍ أخرى يغلب على سكانها المسلمون ويقودها قادةٌ عقلاء؛ كإندونيسيا، وماليزيا، وتركيا. إستطعت أن أنجز في كلٍّ من نيروبي وكمبالا وتركيا كل معاملاتي من شراء ودفعٍ للفواتير،بل وترحيلٍ بسيارات الأجرة “أوبر”،ببطاقة الإئتمان، ولم أحتج قط إلى أن أدفع بالكاش.هذه قليلٌ من كثيرٍ مما يمكن أن يُقال عن هذه الدول ونهضتها،ومن بينها من نتشارك معها العيش في إقليم شرق إفريقيا. ينشغل قادة الدول الذين يستحقون أن يكونوا قادةً، بالبناء والتحديث والبقاء في وحدةٍ عضويةٍ مع العالم ، وفقا” لإستراتيجية مدروسةٍ ومنفَّذةٍ بدقة هذ ا، في حين ينشغل قادة بلادنا،من الكيزان وعسكرهم، بالشعارات الفارغة وإلهاء الرأي العام بالعلف الإعلامي الغث، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، بغرض إلهاء الجمهور و”إستحماره” عن قصدٍ مُبيَّتٍ، حتى يتفرغوا هم لسرقة الموارد وإيداع عائداتها المالية في بنوك الخارج.لتكون النتيجة حبس البلاد في قمقم التخلف الذي صنعوه بِدِرْبَةٍ ومهارةٍ لافتةٍ، لننتهي، كما نحن الآن،إلى هذه الحالة من الكرب والتدمير الشامل.
كل ما حدث للسودان من تخلُّفٍ مُزرٍ وفاضحٍ سببه واحدٌ فقط، وهو:أن بعضا” من عسكر الكلية الحربيه السودانيه قد أصروا أن يكونوا ساسةً ، بلا تأهيلٍ فكريٍّ أو سياسيٍّ،أوإقتصادي، أو ثقافي ، وأن يديروا البلاد إيعازٍ من بعض القوى المدنية لمدة 57 عاما” من جملة 68 عاما”، هي كل عمر إستقلالنا . لكن،الحلف الأسوأ بين العسكر والمدنيين والأكثر تخريبا” وتدميرا”،للبلاد ولعقول ونفوس العباد، لهو الذي صنعه الزعيم الكيزاني الراحل د.حسن الترابي،فهو الحلف الذي نشهد اليوم خلاصة تجلِّيات طبيعته التدميرية . لقد كنا نسير في درب التخلف منذ الإستقلال باطِّراد ، بلا لحظةٍ من تقدُّمٍ واحدة لكن ، ما أن إئتلف الإسلام السياسي مع شهوة بعض العسكر للسلطة، تسارعت وتيرة التخلف حتى وصلنا إلى هذه الحالة الغرائبية من الفوضى والغوغائية والضحالة، والعياء الفاضح في العقل وفي اللسان. وهي حالةٌ أصبحت لغرائبيتها وخروجها عن المألوف، مادةً جاذبةً للقنوات العربيه،حيث وجدت فيها مادةً للتسلية ، فحرصت على عرضها كل مساءٍ من على شاشاتها، لكي يضحك فينا العالم ملء شدقيه.