عبد الرحمن الكلس
ما حدث لبشار الأسد وعائلته الحاكمة ونظامه الراسخ لزهاء (54) عامًا من انهيار درامي وهروب من المواجهة الأخيرة، مواجهة البطولة والبسالة والفروسية؛ ينبغي أن يكون عظة وعبرة لمن يعتبر، خصوصًا للحكام المستبدين وللشعوب المقهورة في آن.
بالنسبة لبلدنا، فإن عبد الفتاح البرهان هو الذي خطر على ذهني – أولًا – عندما كنت أفكر في من هو السوداني الذي ينبغي أن ينظر إلى ما حدث لنظام بشار الأسد بجدية، ولا يتغافل عنه، وأن يهتدي بهديه ويأخذ منه العظة والعبرة، فأين بشار الآن وأين روسيا وإيران؟ لم تنفعه أجهزته الأمنية: لا مخابراته العامة، ولا مخابراته الجوية، ولا جهاز أمنه السياسي الأكثر توحشًا في المنطقة، فهل تنفع “الخلية المشتركة” يوم لا ينفع أمن ولا أهل أو عشيرة؟!
أعرف أن هدفي بتمحيض عبد الفتاح البرهان النصح لن يتحقق، لذلك فأنا لا أنصحه وإنما أُذكّره، خصوصًا أنني وجدت الرجل لا ينظر إلى أمر بحرص وجدية وعناية كأمر استمراره في الحكم، حتى لو أدى ذلك إلى أن يمزق السودان شذرًا مذَرًا، ويؤسس دولة صغيرة في مسقط رأسه (قندتو)!!
لا أظلم الرجل بقولي هذا، وإنما لي في ذلك ما أستند عليه. فقد غرّد القيادي بتنسيقية (تقدّم) الأستاذ “طه عثمان إسحق”، أمس، كاشفًا أنّه: “بعد انقلاب 25 أكتوبر وأثناء اجتماعات مناقشة الاتفاق الإطاري مع البرهان؛ في بيت الضيافة وضرورة المضي في الإطاري وتجنب المواجهة مع الدعم السريع، ذكر لنا – البرهان – بأنه يُمكن أن يحوّل الوضع مثل سوريا، وبعد تدمير البلاد سيحتفظ بالسلطة وسيتعامل معه العالم مثلما فعل مع نظام بشار”. ثم تساءل طه عثمان في ختام تغريدته: “كيف انتهى الحال ببشار يا برهان؟”.
قبل هذه التغريدة بسنوات، ذكر قائد الدعم السريع في تصريح له أنه قال للبرهان ما معناه: “بالطريقة دي البلد حتتفرتك وتضيع مننا”، فكان رده عليه: “خليها تتفرتك، بتجينا راجعة تاني!”.
من بين هذا وذاك، يبدو أن فكرة إغراق السودان في الفوضى، ولو أفضت إلى تقسيمه أو البقاء في السلطة، راسخة في ذهن البرهان، وأنه كان ينظر إلى بشار الأسد من ناحية، وإلى التجربة الليبية من ناحية أخرى، بعين الاعتبار.
ظلّ البرهان منذ انقلابه في 25 أكتوبر 2021، إلى إشعاله الحرب بالتحالف مع الكيزان في أبريل 2023، وحتى الآن، يرفض بعناد ودأب كل المحاولات لإنهاء الحرب من خلال مفاوضات بنّاءة تقود إلى تسويات سياسية تنهي هذه الحرب المُكلفة وتُعيد البلاد إلى حالة الاستقرار الأمني والسياسي، مُعوّلًا في ذلك على تحالفات داخلية متناقضة وشديدة الهشاشة “الحركة الإسلامية المتطرفة والحركات المسلحة الارتزاقية”، وعلى محاور خارجية أكثر هشاشة بالاعتماد على روسيا وإيران وقطر.
الآن، يبدو الخلاف واضحًا جدًا بين مكونات تحالف البرهان الداخلي. فحركات الارتزاق غير راضية عن الوضع، وقادتها جبريل ومناوي يتململان ويشعران بأن ثمة من يتآمر عليهما لإخراجهما من المعادلة أو إضعافهما. وصف مناوي نفسه أحدهم (بالرجل الطويل والعريض والكبير)، وقال إنه يُسرب معلومات مضللة لإحدى الصحافيات مستهدفًا (الحركات). كما أن الإرهابيين الإسلامويين يتململون، ولا يثقون بالبرهان، وقد وصفه شيخهم عبد الحي يوسف بأسوأ الأوصاف ونعته بأقذر الصفات البشرية وأخرجه من ملة البشر الأسوياء، وقال كذلك إن من يقاتل على الأرض ليس الجيش وإنما المليشيات الإسلامية.
أما بالنسبة للمحور الخارجي، فإن مخالب إيران قد تم (تقليمها) بقتل حسن نصر الله زعيم حزب الله، وقتل قائدي إسماعيل هنية ويحيى السنوار على التوالي، أحدهما في قلب إيران، وغني عن القول: “المتغطي بروسيا عريان”!.
والآن وفي غضون أسبوعين فقط، تم إزاحة نظام الأسد، فأصبح الرجل محض “عنزة شاردة”، بعد أن استأسد على الشعب السوري هو ووالده وأسرته وأهله وعشيرته لأكثر من نصف قرن. ساموه العذاب وأذاقوه الويلات، واستخدم الهارب الأسد الابن البراميل المتفجرة في قتل الشعب، كما يفعل البرهان الآن، وهو يحذو خطى “بشار الأسد” حذو النعل، حتى بالركون إلى إيران وروسيا، اللتين تخلتا عن حليف قوي له دولة بمؤسسات راسخة وأهمية استراتيجية عظمى في شرق المتوسط وتجاور إسرائيل الدولة الأكثر أهمية للغرب في هذه المنطقة. فما بالك بالبرهان الذي خرجت نصف البلاد وأكثر عن سيطرته ولا يجاور سوى مصر السيسي التي باعت فلسطين كاملة بكل ما تحتل داخل الوجدان المصري؟!
إذًا، يراهن البرهان على سراب و”يدفق مويته على الرهاب”. فالمرحلة المقبلة من العالم الجديد لا تحتمل وجوده بهذه الطريقة، فإما أن ينخرط في مفاوضات تفضي إلى تسوية سياسية أو سيتخلى عنه الجميع. فإيران نفسها في خطر ماحق، وروسيا مشغولة بحرب أوكرانيا، لذا تخلت عن النظام السوري الذي تربطها به علاقات منذ 1971. ولو أن القواعد العسكرية البحرية والأرضية الروسية تحمي لحمت القواعد في “طرطوس” و”حميم” بشار من السقوط. فما قولك في علاقتها بالبرهان التي بدأت (أول أمس)؟ ستسرق روسيا بضعة أطنان من الذهب وتتخلى عنه في “رمشة عين”، وحينها لن يجد من يقبل به لاجئًا سياسيًا.
على الأقل سينعم بشار وعائلته بإقامة أقل بؤساً في (روسيا) فيما تبقى من أعمارهم، أما البرهان فمصيره قاتم ومستقبله مُدلهم، وإذا ما استمرأ ما هو فيه الآن فلن يقبل به حتى أهله في “قندتو”!
إن العاقل من اتعظ بغيره.