(تقرير: منعم سليمان)
🔺مقدمة:
شهدت فترة حكم “الإخوان المسلمين” أو ما يُعرف بـ”الحركة الإسلامية السودانية” (1989-2019) بقيادة الرئيس المخلوع عمر البشير، تحولات كبيرة في بنية الجيش السوداني، وشهد الجيش تدهورًا كبيرًا على كافة الأصعدة، وتحوله من جيش مهني ووطني إلى كيان يخضع لقيادة حزبية إسلامية. تم ذلك عبر عزل غالبية الضباط المهنيين بحجة “الصالح العام” واستبدالهم بعناصر من التنظيم الإسلامي. ومع تحوّل الجيش إلى أداة حزبية بعقيدة إسلامية، بدأ تأسيس المليشيات المسلحة كوسيلة للقتال بدلاً من الجيش النظامي الذي فقد تدريجيًا قدرته على أداء مهامه المهنية والقتالية، ما أدى إلى الكارثة الحالية التي يعيشها السودان.
🔺مليشيات دينية وحرب أهلية:
مع بداية حكم الرئيس المعزول عمر البشير، استخدمت جماعة الإخوان المسلمين (الكيزان كما يطلق عليها في السودان) الدين كأداة لتحشيد الشباب لمحاربة “الحركة الشعبية لتحرير السودان” في جنوب السودان قبل انفصال السودان، وحولت الصراع إلى حرب “جهادية”.
أنشأت الحكومة آنذاك معسكرات تدريب إجباري للشباب، خاصة الطلاب، تحت غطاء “الدفاع الشعبي”. وكان الهدف المعلن هو الدفاع عن البلاد، لكن الأهداف الحقيقية تمثلت في غسل عقول الشباب بنشر أيديولوجية الحركة الإسلامية. هذه المعسكرات دفعت بآلاف السودانيين إلى ساحات القتال، حيث قُتل الكثيرون دون جدوى.
🔺الجيش والمليشيات في دارفور:
بدأت حكومة (الكيزان) بتشكيل مليشيات مسلحة في دارفور مطلع عام 2003 لمحاربة الحركات المسلحة المتمردة. وقامت الاستخبارات العسكرية بتشكيل مليشيات مسلحة تحت اسم “الجنجويد” بقيادة “موسى هلال” زعيم قبيلة المحاميد العربية. حينها تم تطبيق سياسة “فرّق تسُد” في دارفور وتحويل الحرب إلى حرب عرقية، وذلك عبر تقسيم المجتمع الدارفوري إلى (عرب وزرقة)، ما قاد إلى تصاعد وتيرة العنف بشكل وحشي. هذه الممارسات الوحشية أسهمت في تدمير النسيج الاجتماعي في الإقليم وأدت إلى ارتكاب انتهاكات جسيمة، انتهت إلى جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية.
🔺الشرق يدخل دائرة المليشيات:
ظل شرق السودان بعيدًا عن ظاهرة المليشيات المسلحة في كل تاريخه، ولكن الوضع تغير بعد اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023. منذ ذلك الحين، بدأت الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تسيطر عليها الحركة الإسلامية السودانية في تأسيس مليشيات جديدة بشرق السودان، مما يُنذر بمخاطر جسيمة على هذه المنطقة الحساسة.
كان آخر المليشيات التي شكلها الجيش أمس الأحد 23 نوفمبر 2023، حيث دُشنت مليشيا جديدة في شرق السودان تحت اسم “شباب التغيير والعدالة”، والتي قال قائدها خالد ثالث عبر وكالة الأنباء السودانية الرسمية (سونا) إنها جاهزة للعمل بجانب الجيش ضد المليشيات “المتمردة”، في إشارة إلى قوات الدعم السريع.
🔺مليشيات الشرق: واقع جديد وخطر كبير:
المليشيا الجديدة انضمت لقائمة طويلة تضم عددًا من المليشيات في شرق السودان، أبرزها:
– مليشيا الأُورطة الشرقية بقيادة الأمين داؤد.
– قوات تحرير شرق السودان بقيادة إبراهيم دُنيا.
– مؤتمر البجا – المسلح بقيادة موسى محمد أحمد.
– مؤتمر البجا – القيادة الجماعية بقيادة الشيخ محمد طاهر سليمان علي بيتاي.
– مليشيات الرشايدة بقيادة مبارك سليم ومليشيا الناظر مبارك بركي.
– مليشيا تنظيم البجا – الكفاح المسلح بقيادة شيبة ضرار في ولاية البحر الأحمر.
– مجموعات قبلية مرتبطة بالنظام القديم يقودها الناظر ترك، ومجموعات قبلية مسلحة أخرى من البشاريين والعبابدة على الحدود الشمالية الغربية (مثلث حلايب وشلاتين)، تنشط في تهريب الذهب والبشر والسلاح.
– في ولاية القضارف، هناك مليشيا مصطفى تمبور ومليشيات مسلحة أخرى من دارفور تم استدعاؤها إلى الولاية. كما يتم تشكيل مجموعة عرقية في جنوب الولاية بواسطة الجيش من قبيلة المساليت.
تجدر الإشارة إلى أن عددًا كبيرًا من هذه المليشيات لا تقتصر أوامرها وتعليماتها على قيادة محلية من الجيش فحسب، بل يتم دعمها وتوجيهها من قبل أطراف خارجية، مثل الجيش الإريتري وحكومة أسياس أفورقي.
🔺خطورة تأسيس المليشيات في المنطقة:
تأسيس مليشيات مسلحة في شرق السودان يمثل تهديدًا خطيرًا لاستقرار السودان ووحدته الوطنية. وجود هذه المليشيات يفتح الباب أمام تفاقم النزاعات الداخلية، خاصة في منطقة تعاني من مطامع دول الجوار. كما أن تجربة دارفور تؤكد أن الاعتماد على المليشيات يؤدي إلى تصاعد العنف بشكل خارج عن السيطرة، ويهدد وحدة البلاد وسيادتها.
إن دعم الجيش لمليشيات غير منضبطة يُضعف احتكار الدولة للسلاح، مما يؤدي إلى انتشار الفوضى وإضعاف سيادة القانون. كما أن الاعتماد على قوات غير نظامية وغير مدربة يضعف كفاءة الجيش النظامي، ويهدد مكانته كحامي للشعب ومصدر للأمن القومي. فضلاً عن أن تأسيس المليشيات يُثقل كاهل الدولة باستنزاف مواردها في تمويل وتسليح هذه الجماعات، على حساب القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية، ويجعلها دولة فاشلة بامتياز.
🔺الخاتمة:
إن تأسيس الجيش السوداني لمليشيات مسلحة في شرق السودان، يعيد أخطاء الماضي القريب التي عانت منها دارفور وغيرها من الأقاليم. هذه السياسات، التي تكرس النزاعات وتُضعف الدولة، تعكس انعدام الرؤية والمسؤولية لدى القيادة العسكرية. وإذا لم يتم تدارك هذا الوضع سريعًا عبر العمل على وقف الحرب سلمياً، وحل هذه المليشيات، وبناء جيش وطني مهني بعقيدة عسكرية وطنية جديدة، فإن السودان مهدد بمزيد من التفتت والانهيار.
إن شرق السودان، الذي يُعد بوابة البلاد ومصدرًا حيويًا لمواردها، مع وجود هذه المليشيات والفوضى وانعدام الأمن والاستقرار قد يصبح ساحة لصراعات إقليمية ودولية، مما سيعمق أزمة السودان ويضع مستقبله على المحك.