إيران، بفضل موقعها الجغرافي وتوجهاتها السياسية والعقائدية، تسعى إلى التوسع خارج حدودها، خاصة في الأوقات التي تتسم بالأزمات في المناطق المحيطة. الأزمة السودانية المستعرة منذ سنوات ليست استثناءً لهذه الطموحات. مع تزايد حالة الفوضى الداخلية في السودان، تجد طهران فرصة لتعزيز وجودها في هذا البلد الهام والاستفادة من وضعه الجغرافي لتوسيع نفوذها في أفريقيا، وهي قارة تحاول إيران على مدى عقود الوصول إلى قلبها لأسباب سياسية واقتصادية وأيديولوجية.
من أبرز الوسائل التي تستخدمها إيران لتحقيق هذا الهدف هو التعليم، حيث تقوم بإنشاء مدارس وجامعات في عدد من الدول الأفريقية، بما فيها السودان، بهدف نشر المذهب الشيعي وتعزيز ارتباط هذه المجتمعات بإيران. هذه المؤسسات التعليمية ليست مجرد منصات أكاديمية، بل أدوات لنشر الأيديولوجيا الشيعية وتثبيت النفوذ الإيراني في المجتمعات المحلية. التعليم، إذًا، يُعتبر من أسلحة إيران الناعمة التي تستخدمها لتوسيع نفوذها في أماكن يصعب عليها التدخل فيها مباشرة بالقوة العسكرية.
وعلى الجانب السوداني يوجد ارتباط قديم بين بعض فصائل الإخوان المسلمين في البلاد وإيران. وعلى الرغم من أن هذه الروابط التنظيمية لا تتمتع بالقوة الكبيرة، إلا أن هناك مجموعة صغيرة من أعضاء الإخوان تحمل ولاءً قويًا لإيران وشخصية الخميني، وتتأثر بالمذهب الشيعي. هذا الارتباط الفكري ظهر للمرة الأولى بشكل واضح في جامعة القاهرة فرع الخرطوم، حيث كان يتم التعبير عن هذه الأفكار من خلال نشاطات طلابية وصحف حائطية. وعلى الرغم من أن هذا التيار ظل ضعيفًا وغير مؤثر، إلا أن المتغيرات الحالية في السودان قد تتيح له الظهور مجددًا، خاصة إذا تمكنت إيران من ترسيخ وجودها في البلاد.
◄ من أبرز الوسائل التي تستخدمها إيران لتحقيق هذا الهدف هو التعليم، حيث تقوم بإنشاء مدارس وجامعات في عدد من الدول الأفريقية، بما فيها السودان، بهدف نشر المذهب الشيعي
الوضع في السودان، الذي يعاني من العزلة الدولية والعقوبات المفروضة عليه بسبب الحرب الداخلية والانهيار السياسي، يجعل حكومة بورتسودان تبحث عن أي حليف خارجي يقدم لها الدعم. وفي ظل هذه الظروف قد تجد إيران الفرصة سانحة لتقديم نفسها كحليف إستراتيجي، مستغلة الحصار والعزلة التي تعاني منها الحكومة السودانية. بالنسبة إلى إيران يمثل هذا التحالف فرصة للعودة إلى الساحة الإقليمية والدولية من بوابة السودان، ما يتيح لها تعزيز موقفها على المستوى الدولي، خاصة في ظل التوترات التي تعيشها مع الدول الغربية وبعض دول المنطقة.
ويعد الموقع الجغرافي الإستراتيجي للسودان من أهم الأسباب التي تدفع إيران إلى توسيع نفوذها هناك. إطلالة السودان على البحر الأحمر، أحد أهم الممرات المائية في العالم، يعطي لطهران فرصة ذهبية للسيطرة أو التأثير على حركة الملاحة الدولية. إذا تمكنت إيران من إقامة تواجد قوي على السواحل السودانية فستتمكن من مراقبة بل حتى تعطيل حركة السفن في هذا الممر الحيوي. هذه السيطرة ستمتد بشكل أكبر عبر تعزيز تحالف إيران مع الحوثيين في اليمن، وهو ما سيشكل تهديدًا مباشرًا لأمن الملاحة في البحر الأحمر ويزيد من قلق دول المنطقة، خاصة السعودية ودول الخليج.
إلى جانب الأبعاد الجغرافية والإستراتيجية، فإن تعزيز النفوذ الإيراني في السودان عبر إمداد حكومة بورتسودان بالسلاح أو تقديم مساعدات عسكرية سيؤدي إلى تصعيد الأوضاع الأمنية في المنطقة. تواجد السلاح الإيراني في السودان سيساهم في زيادة اشتعال النزاعات، وسيحول البحر الأحمر إلى ساحة للصراع الدولي، وهو ما سيزيد من تعقيد المشهد الأمني في المنطقة ويعرّض الملاحة الدولية لتهديدات متزايدة. كما أن هذا الدعم العسكري قد يعزز قدرة إيران على خلق توترات مباشرة مع دول الخليج، التي تعتبر وجود إيران في محيطها تهديدًا لأمنها القومي.
ومن ناحية أخرى تسعى إيران من خلال إشعال الأوضاع في السودان إلى تخفيف الضغوط الداخلية التي تعاني منها. فطهران تعيش أزمة اقتصادية وسياسية خانقة نتيجة العقوبات الدولية المفروضة عليها، إضافة إلى تحديات داخلية متعلقة بالاستقرار الاجتماعي. لذلك، فإن تحريك الصراع خارج حدودها عبر التوسع في السودان سيمنح النظام الإيراني بعض الوقت للتنفس داخليًا ويخفف عنه الضغوط المباشرة. وفي نفس الوقت سيجعل هذا التوسع إيران أكثر قربًا من الدول التي ترى فيها تهديدًا لمصالحها، وسيمنحها القدرة على التعامل المباشر مع أي تهديدات محتملة لأمنها الإقليمي.
إيران إذًا لا ترى السودان مجرد فرصة جغرافية وسياسية، بل تعتبره نقطة انطلاق نحو تحقيق مكاسب إستراتيجية على المدى البعيد، سواء على مستوى التوسع في أفريقيا أو على مستوى التحكم في البحر الأحمر وتعزيز نفوذها الإقليمي.