عبد الله علي إبراهيم
ملخص
أثقل الإسلاميون بتاريخهم المنكور هذا على الحرب التي دخلوها إلى جانب القوات المسلحة من جانبين، فالجانب الأول هو اصطفاف خصومهم ضد هذه القوات بذريعة أنها مجرد ميليشيات كيزانية. أما الجانب الثاني فهو أنهم، لإسلاميتهم وتاريخهم في دولتهم الإسلامية، ذريعة سائغة لدمغ الجيش الذي وقفوا معه، بـ”الإرهاب” كما تواتر أخيراً.
كان هناك من حذر الإسلاميين أول عهدهم في الحكم بالانقلاب، من أن ينتجوا من فرط استبدادهم بالحكم معارضة كئيبة تلعنهم شيطاناً رجيماً لا خصماً سياسياً ذا مشروع، مهما توسل له بغير استحقاق أو نباهة، وحدث. فما اصطفوا ليومنا مع الجيش حتى تبخر الجيش في حساب خصومهم وصار “ميليشيات كيزانية” محض. فقالت الصحافية رشا عوض إنه ما من “حزب سياسي في السودان يمتلك جيشاً سوى الكيزان” ليتهم بإشعال الحرب، وحذر الحزب الشيوعي من عودة “نظام الإخوان المسلمين برماح قيادة القوات المسلحة”.
داء “الكوزنة”
من جانب آخر تجد مدير مركز “الخاتم عدلان للاستنارة” الباقر العفيف أحال الإسلاميين من السياسة إلى سرير المتخصص النفسي ليشخص داء “الكوزنة” الذي ابتلوا به. فقال “لا ينتابني شك أن ’الكوز‘ كائن مريض. فالكوزنة مرض خبيث أشد خبثاً وفتكاً بالإنسان من السرطان. مرض عقلي ونفسي وروحي يصيب العقل بعطب يعميه عن رؤية الحق، ويصيب النفس بخلل يوقظ حيوانيتها ويقتل إنسانيتها ويجعلها أمارة بالسوء والشرور، ويصيب الروح بعاهة تجعلها كثيفة متخثرة مخلدة إلى الأرض لا علاقة لها بالسمو والنبل وشفافية الأرواح. والكوزنة من نوع الأمراض التي تؤثر في كيان الإنسان وجسمه فتحوله هو الآخر لكيان شائه وقبيح. ومن هنا جاءت عبارة ’الكوز‘ كائن متحول… الكوزنة تجعلك دائم الحنق والغضب والتوتر، وتجعلك دائماً مرعداً مزبداً متوعداً، لاعناً شاتماً بذيئاً، هامزاً غامزاً لامزاً، عابساً مكشراً وقبيحاً”.
أما القاضي محمد الحسن محمد عثمان الذي أقالته “دولة الإنقاذ” من وظيفته في باكر عهدها، فاستباح دم الكيزان لـ”الدعم السريع”. فرأى في حرب “الدعم السريع” على الفلول عقوبة إلهية على سيئات أعمالهم، وقال “بدأ الانتقام الرباني وسلط على الكيزان حميدتي والجنجويد وجعلنا نتفرج عليهم. ويا ويلهم! وجعلنا نتفرج عليهم وهم يصرخون ويولولون كالنساء من حميدتي ويا ويلهم! مما عملت أيديهم. وهذا في الدنيا فما بالك في الآخرة”.
ولا أعرف جماعة سياسية هانت هكذا في عين خصمها. ولا أعرف من الجانب الآخر جماعة جاءها خصم سياسي فظ فنسبت سياسته إلى عاهة خلقية ودعت عليه بالكفوف! لا بد أن ثمة شيئاً عفناً في دولة الدنمارك. ومهما يكن، لا يعرف المرء إن لم يكن اصطفاف الكيزان مع الجيش خصماً عليه.
دمغة الإرهاب
أما ما استحق الخشية على القوات المسلحة من اصطفاف الكيزان معها فهو دمغه بالإرهاب. وهي نذر جاءت بغير لبس في التقرير السنوي عما يتهدد أميركا من أخطار (مارس “آذار” الماضي) الذي تعده مؤسسات الأمن القومي الأميركية. وعقد التقرير بين ما قد يجده في السودان جراء الحرب من إرهاب، سبق ودمغته أميركا به لأكثر أعوام حكم الإسلاميين في “دولة الإنقاذ”. فحذر التقرير من أن السودان بحربه يخاطر ليصير بيئة مثالية للإرهاب وشبكات الإجرام العالميين. وقد تتعدى حربه وتطال ما حوله، فطول أمد الحرب مؤذن بمثل هذه النتيجة. وموقع السودان في ملتقى القرن الأفريقي في الساحل وشمال أفريقيا قد يصبح مرة ثانية بيئة مثالية للإرهابيين وشبكات الإجرام. ونوه التقرير بأن منظمات إقليمية موصولة بتنظيمي “القاعدة” و”داعش” ستوالي التمدد في أفريقيا بالنظر إلى تنامي قوة “داعش” في بلاد غرب السودان. وهذا ما سيغري “القاعدة” التي توالى ضعفها في أفغانستان وباكستان بالتمدد للسودان، كما قد يدفع تنظيم “داعش” الذي تعرض لنازلات فقدان قياداته في العراق وسوريا إلى نفس الخطة. فراج في قول التقرير فيديو لخلية سودانية من التنظيم تقسم بالولاء للخليفة أبو حفص الهاشمي القرشي، ولم تنس واشنطون للسودان أنه أوى بن لادن من عام 1991 إلى عام 1996 قبل ارتحاله إلى أفغانستان. وكانت أوضاع السودان السياسية مثلها اليوم بوجوه كثيرة، فكانت تضربه حرب أهلية ومحكوم بديكتاتورية عسكرية، فتعاقد بن لادن مع أولئك الديكتاتوريين في حين كان له مشروعه الخاص. وأشار التقرير إلى تسليح السودان من أطراف إقليمية مما يطيل أمد الحرب ويفتح الباب لدخول دول أخرى في حومة الوغى. وربما عزونا انتصارات القوات المسلحة الأخيرة في أم درمان التي خضعت لحرب مدن لـ11 شهراً إلى تسليح إحدى الدول الإقليمية له. وساق تسليح الجيش دولاً عربية لتنسق بصورة وثيقة لاجتراح حل سياسي لحرب السودان.
وكان التلويح بخطر الإرهاب من حرب السودان حاضراً في خطاب المبعوث الأميركي الخاص للسودان توم بيرييلو فقال في تقريره أمام الكونغرس خلال مايو (أيار) الماضي، إنه اطلع على تقارير ذات صدقية عن الأعداد المتزايدة للاعبين سياسيين حول الحرب تشمل إسلاميين وموظفين سابقين بنظام الإنقاذ. وهي العناصر التي يرى أنها الجسر بين السودان وإيران. فقال في رده على سؤال من “الصحيفة” الكويتية عن نظرة أميركا لتأثير إيران في حرب السودان، إن تقارير عامة تواردت عن دور إيراني في الحرب. وليس هذا كما سمعنا من السودانيين شيئاً يريدونه لأنفسهم. وذكر بأن لإيران سابق ارتباط بالكيزان الذين سماهم “عناصر متطرفة في البلد”. ووصف الأمر بالمقلق وأنهم سيراقبونه بكل تأكيد. فقد طرق الأمر آذانهم من سودانيين وفي بلدان الإقليم الذين يخشون أن الوضع سيسوء مع هذا الدور الإيراني بأكثر مما هو عليه ابتداء، ويصب الزيت ليشعل حرباً إقليمية.
وبدا أن من السودانيين الذين ربما استمع لهم بيرييلو عن الإرهاب رئيس وزراء الفترة الانتقالية عبدالله حمدوك الذي حذر أخيراً من أن الحرب الأهلية الناشبة تهدد بتحويل السودان إلى أرض خصبة للإرهاب الإقليمي من جماعات مرتبطة بالقاعدة في غرب أفريقيا والمتشددين مثل حركة الشباب. ونسج على منواله مستشار “الدعم السريع” إبراهيم مخير بقوله إن “منطقة الفاشر تشهد تواصلاً مستمراً بين الاستخبارات السودانية والحركات الإرهابية، وأشهرها ’بوكو حرام‘ من أجل تجنيد المقاتلين واستقدامهم من ليبيا عبر تشاد”.
صح أن يعد الإسلاميون فداحتهم في الميدان السياسي أول ما يعدون إذا تواصوا على استراتيجية لما بعد زوال دولتهم. فـ”الفجور في الخصومة”، وهذه عبارة جاؤوا بها هم في أول عهدهم من مكروهات السياسة، ولكنها مما يقع. ولكن أن يبلغ هذا الفجور مبلغ استباحة خصوم الإسلاميين لدمهم لـ”الدعم السريع” الذي لا يحتاج لمثل هذه الرخصة، فمما يقع وزره على الإسلاميين بأكثر من خصومهم. ويحتار المرء من الجهة الأخرى عن كيف سنتوقى دون دمغ الجيش بالإرهاب من باب الإسلاميين ممن كانوا تحت طائلته لثلاثة عقود. فالإرهاب في نظر العالم القوي صنو الناشط الإسلامي إلا من رحم. سيحتاج الإسلاميون في استراتيجيتهم الموعودة إلى كفارة بلا ضفاف لدرء الإرهاب عنا. وبعبارة، سيحتاجون إلى الإسلام ذاته.