مقدمة:
اليوم الموافق 13 أكتوبر 2024 هو اليوم الذي تدخل فيه اتفاقية التعاون المائي لدول حوض النيل، أو ما يعرف بـ(اتفاقية عنتيبي)، حيز التنفيذ، وذلك بعد 14 عامًا من توقيع الدول المطلة على نهر النيل على الاتفاقية. وتشمل هذه الدول: أوغندا، إثيوبيا، تنزانيا، كينيا، الكونغو الديمقراطية، رواندا، بوروندي، وجنوب السودان، باستثناء دولتي المصب (السودان ومصر ) اللتين رفضتا التوقيع على الاتفاق الإطاري في العام 2010 بسبب مخاوفهما من تأثير ذلك على حصتيهما من مياه النيل، التي تم تحديدها في الاتفاقيات الموقعة في أعوام (1902، 1929، و1959)، والتي تمنح مصر 55.5 مليار متر مكعب سنويًا من مياه النيل و18.5 مليار متر مكعب سنويًا للسودان. هذه الحصص ترفضها دول المنبع، وخاصة إثيوبيا، التي تعتبرها غير عادلة وقد فرضت بواسطة سلطات استعمارية.
نبذة عن اتفاقية عنتيبي:
قبل ربع قرن (2009)، وبمبادرة ورعاية من الأمم المتحدة والبنك الدولي، تم إطلاق مبادرة تهدف إلى تنظيم التعاون وإدارة الموارد المائية لنهر النيل بين دول المشاطئة. لكن المبادرة لم تنجح بسبب خلاف أثارته مصر حول بنود الاتفاق الإطاري المقترح. اتفقت دول المنبع على إقامة مفوضية جديدة أطلق عليها “مفوضية مياه النيل”، ومهمتها إدارة وتنظيم شؤون مياه النهر بين دوله. كان الخلاف الأكبر حول المادة (14) للاتفاقية الجديدة، والتي نصها: “تتفق دول حوض النيل بروح التعاون على عدم التأثير الكبير في الأمن المائي لأي دولة أخرى في حوض النيل”، بينما طالبت مصر بتعديل النص ليصبح: “عدم التأثير بصورة كبيرة في الأمن المائي (والاستخدامات الحالية) وحقوق أي دولة أخرى في حوض النيل”، في إشارة واضحة إلى مخاوفها من تأثير الاتفاقية على حصتها التي حصلت عليها بموجب الاتفاقيات القديمة.
بعد حوالي 10 سنوات من الخلاف، اجتمعت دول المنبع (8 دول) في مدينة عنتيبي اليوغندية ووقعت على الاتفاقية، بينما رفضت دولتا المصب (مصر والسودان) التوقيع وجمدتا مشاركتهما في مبادرة حوض النيل برمتها.
اليوم 13 أكتوبر: أول يوم لتطبيق الاتفاقية:
وفقًا للوائح اتفاقية عنتيبي، تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ بعد 60 يومًا من تصديق ثلثي دول حوض النيل عليها. وكان آخر المصدقين عليها دولة جنوب السودان في 14 أغسطس الماضي، مما يعني أن الاتفاقية دخلت حيز التنفيذ اليوم 13 أغسطس. وتم إيداع الاتفاقية لدى الاتحاد الإفريقي، وأُعلن عنها من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28 سبتمبر الماضي.
الدلالات السياسية للتوقيت والمنبر والمُعلن الإثيوبي:
إعلان الاتفاقية الجديدة في أكبر محفل سياسي عالمي بواسطة وزير الخارجية الإثيوبي “تايي أتسكي سيلاسي” يحمل دلالات سياسية كبيرة. ومن المتوقع أن تحظى الاتفاقية باعتراف دولي واسع، وبالتالي يكون لقراراتها شرعية قانونية وسياسية كبيرة.
توقيت الإعلان من قبل إثيوبيا، التي تشهد توترات في علاقتها مع مصر بسبب سد النهضة، يتزامن مع تدخلات عسكرية مصرية في الصومال على حدود إثيوبيا، وإرسال مساعدات عسكرية لمقديشو، بالإضافة إلى تحالف مصر مع إريتريا لتطويق إثيوبيا. كل هذه العوامل تجعل توقيت الإعلان يدخل في إطار الحرب الخفية بين البلدين، ويحمل رسالة إثيوبية واضحة لمصر بأنها تملك أدوات ضغط قوية ضدها.
تأثير الاتفاقية الجديدة على مصر والسودان:
منذ استقلاله، ظل السودان تابعًا لمصر فيما يتعلق بشؤون مياه نهر النيل، خصوصًا في فترات الحكم العسكري. باستثناء فترة قصيرة خلال الحكومة المدنية الانتقالية (عامين وشهرين) من أغسطس 2019 حتى انقلاب 25 أكتوبر 2021، قبلها لم يسبق أن اتخذ السودان موقفًا مستقلًا يتعلق بمصالحه المائية. حاليًا، يخوض السودان حربًا داخلية مدمرة منذ أكثر من عام ونصف، مما أدى إلى توقف جميع مشاريعه الزراعية والصناعية المتعلقة بالمياه، الأمر الذي جعل كامل حصته المائية تذهب إلى مصر، وربما لذلك لم تُعلق الحكومة العسكرية التي مقرها بورتسودان على الاتفاقية الجديدة، كما لم تعلق مصر أيضًا.
يرى مراقبون سودانيون أن عدم تعليق مصر، التي عُرف عنها مخاوفها وقلقها الدائم بشأن أمنها المائي، يعود إلى توفر المياه بشكل أكبر من المعتاد في الوقت الحالي بسبب استحواذها على كامل حصة السودان نتيجة الحرب.
يعتقد محللون سودانيون أن مصر أكبر المستفيدين من الحرب الحالية في السودان، وأن توقف الحرب وإعادة بناء السودان لبنيته التحتية سيؤدي إلى تأثير سلبي على مصر، وهذا ما يثير المخاوف من دعمها للحرب السودان. كما أن وقف الحرب واستفادة السودان من حصته يعمق من أزماتها ويضعها في توترات مع دول اتفاقية عنتيبي، إضافة إلى إثيوبيا، التي تعد العدو المائي اللدود لمصر.
خاتمة:
تواجه مصر أزمة قادمة لا محالة مع دخول اتفاقية عنتيبي اليوم حيز النفاذ، مما يفاقم المخاوف بشأن أمنها المائي، خاصة بعد أن صادقت معظم دول المنبع على الاتفاقية التي تتجاهل حصتها (التاريخية) في مياه النيل، وهي أزمة تتعدى أمنها المائي إلى القلق من مستقبل السلام في السودان.
بات من الواضح أن دخول الاتفاقية حيز التنفيذ يعكس تحولًا مهمًا في ملف إدارة مياه نهر النيل، سيكون له تأثير كبير على العلاقات المائية والسياسية في المنطقة. مصر تواجه تحديات جديدة قد تغير مسار علاقاتها مع دول المنبع، خاصة في ظل التوترات والتكتلات الإقليمية الحالية، والبديل عن ذلك هو عملها على دعم الجيش السوداني ومن خلفه الإخوان المسلمين في حربهم، حتى وصولهم إلى السلطة ومن ثم دفعهم لفاتورة الدعم الحربي من الحصة المائية، أو استدامة حرب السودان، وهذا المستحيل بعينه.