رشا عوض
“بعد كدا” عسكرية بس!!! عبارة تتردد بكثرة وبصورة مدروسة من ابواق الدعاية الحربية التي تدفع في اتجاه تحقيق غاية الحرب وهي تكريس حكم عسكري! يرددها بعض المغفلين بسذاجة و كأنما “قبل كدا” ما كانت عسكرية!! كأنما الحكم العسكري في السودان لم يستمر ٥٤ عاما!
الاكذوبة المركزية لابواق الحرب هي ان سبب الخراب والدمار هو القوى المدنية الديمقراطية! وطمس حقيقة ان البلاد عاشت تحت وطأة حكم العسكر اكثر من نصف قرن اي جل عمر الاستقلال!
في هذا السياق يأتي الكذاب الذكي الذي يظن انه اكثر شطارة في التضليل وغسيل الادمغة من الكذاب “العنقالي” ويقول لك : اي انقلاب عسكري كان وراءه مدنيون واشتغلت معه احزاب سياسية!
وهذه معلومة صحيحة جزئيا ولكنها لا تنفي الطبيعة العسكرية المحضة للحكم! بمعنى ان الحل والعقد والسلطة المطلقة تظل في ايدي الجنرالات الذين يتلاعبون بالمدنيين كقطع الشطرنج! ويستحيل ان يعلو صوت مدني على صوت الدكتاتور العسكري المسنود بقوة الجيش!
انقلاب عبود المنسوب لحزب الامة بطش بهذا الحزب ابتداء من نقض الاتفاق مع عبدالله خليل وهو تولي الجيش للسلطة لفترة وجيزة بعد حل خلافات السياسيين، وصولا الى قتل الانصار في احداث المولد الشهيرة ولم يكن لحزب الامة اي وجود او سلطة في عهد عبود بل كان الحكم عسكريا صرفا الآمر والناهي فيه هم الجنرالات رغم وجود افندية مدنيين برتبة وزراء !
انقلاب نميري المحسوب على الشيوعيين والقوميين العرب وجه اقوى الضربات القاتلة للحزب الشيوعي فاعدم خيرة قادته وسجن وطارد من تبقى منهم، وقمع البعثيين والقوميين العرب ، ولم يحتضن الا من فهموا اللعبة جيدا : الحاكم الفعلي هو النميري ولا سلطة ولا صوت يعلو فوق صوته وكل من يحاول التطاول عليه سيحسم بالقوة العسكرية!
انقلاب الانقاذ المشؤوم انتهى باستبداد المركز الامني العسكري واستقواء البشير بالجيش والامن على الترابي نفسه الذي تم سجنه، ثم على بقية قادة التنظيم الذين همشوا ، ونظرا لان الحركة الاسلامية اصلا تنظيم عسكري له اذرعه الاخطبوطية داخل الجيش ، خططت للتخلص من البشير بانقلاب عسكري ينفذه احد ضباط التنظيم في الجيش فواجه البشير هذا المخطط معتمدا على الدعم السريع تحت شعار حميدتي حمايتي، والان تدفع البلاد فاتورة صراع الاجنحة العسكرية على السلطة في حرب دمرت البلاد.
الترويج لنظرية ان العسكر كائنات زاهدة في السلطة وان الساسة المدنيين هم من فتحوا اعينهم عليها وافسدوا طباعهم الجميلة هي محاولة غسيل للعسكر وتجريم للمدنيين بهدف التمهيد للدكتاتورية العسكرية مجددا، وهي محاولة بائسة ولا تصمد امام حقائق ووقائع تاريخنا السياسي.
هذا لا يعني ان تجربة الساسة المدنيين مبرأة من العيوب وانهم لا يتحملون قسطا من المسؤولية عن الذي حاق بالوطن من ازمات، بل هناك احزاب تأسست على ايدولوجيات تتناقض مبدئيا مع الديمقراطية وتستبطن مشاريع انقلابية ، ومن اجل نجاح التجربة الديمقراطية لا بد من مراجعات واصلاحات حزبية ترفع التأهيل الديمقراطي للاحزاب.
ان اي حزب سياسي دبر انقلابا عسكريا او ايده وراهن عليه يكون حفر قبره بيديه لانه قبل بان تكون القوة العسكرية وسيلة لحيازة السلطة وبهذا القبول حرم نفسه من مشروعية الاحتجاج على بطش العسكر ، وهبط بقيمة الادوات التي يمتلكها هو كمدني او يفترض ان يمتلكها لحيازة السلطة وهي الوسائل الديمقراطية وراهن على القوة العسكرية ، والمأزق الكبير هو ان المؤسسة العسكرية ليست آلة صماء يستخدمها من يشاء كيفما يشاء !
بل هي مؤسسة قوامها جنرالات يحتقرون السياسيين المدنيين ويستبطنون فكرة احقيتهم هم بالوصاية على البلاد لانهم يمجدون منطق القوة بحكم ثقافتهم السياسية التي تشكلت الى حد كبير بتأثير الضباط المصريين الذين كانوا متحكمين في قوة دفاع السودان قبل ان يتم طردهم منها بواسطة الانجليز في اعقاب ثورة ١٩٢٤ .ولكن ظلت مصر تزرع عملاءها في الجيش السوداني طيلة العهود العسكرية بما فيها عهد الاسلاميين .
فالمؤسسة العسكرية السودانية ممثلة في الجيش السوداني هي امتداد لقوة دفاع السودان التي انشأها وصممها المستعمر لمهمة التسلط على الشعب واخضاعه وحماية الحاكم من تمرد الشعب لا حماية الشعب من اعدائه الخارجيين، بعد ان خرج الحاكم الاجنبي استبطنت هذه المؤسسة فكرة وراثة الحاكم العام وما زالت مسكونة بهذه الفكرة. واخطر خصائص هذه المؤسسة هي ” الاستلاب المصري” الذي ظل ملازما لها حتى الان. فالجيش السوداني اكبر دائرة نفوذ للدولة المصرية واهم اداة لخدمة المصالح المصرية تاريخيا ولو على حساب المصلحة الوطنية للسودان.
الطيران المصري لن يكتفي بضرب قوات الدعم السريع فقط بل ظل منذ بداية الحرب يضرب المصانع والمنشآت الحيوية لتدمير البنية التحتية للسودان خدمة للمصلحة المصرية التي تقتضي ابقاء السودان عاجزا وتابعا! وانجع وسيلة لتحقيق ذلك هي حكومة عسكرية في السودان اسد على شعبها ونعامة في مواجهة اي استغلال اجنبي للسودان.