عبد الرحمن الكلس
ها هي الحرب تتخذ شكلاً آخر ومسارًا جديداً، ظهرت بوادره المنذرة بالخطر في خطاب حميدتي أول أمس. ومن يعرفون الرجل من مكان قريب يعرفون أنه محارب شديد البأس والحزم في قوله وفعله، ومن قرأوا خطابه بعيون رغباتهم كإعلان لهزيمته عليهم أن يعيدوا القراءة كرتين بعقولهم، فكل الذي مضى شأن، والقادم شأن آخر، و”ربنا يكذب الشينة”!
قال حميدتي في خطابه ما لم يقله سياسي سوداني من قبل، وقطعًا لم يقله عسكري، فهؤلاء لم ولن يوجد من بينهم من يجرؤ على هذا القول، طالما لا يزالون يذهبون لنيل زمالتهم العسكرية من (كلية ناصر العسكرية)، وهي كلية تم إنشاؤها خصيصًا لتجنيد العملاء من جيوش الدول (العربية) لصالح مصر، ولهذا السبب ترسل الدول الخليجية ضباطها إلى كلية “ساندهيرست” العسكرية البريطانية الشهيرة، وكلية “ويست بوينت” الأمريكية المرموقة المتخصصة في العلوم العسكرية!
حميدتي وجه اتهامات مباشرة وقوية ضد مصر، وكشف تورطها في الحرب، وهو أمر معلوم للكافة يتداوله السودانيون فيما بينهم في جلساتهم الخاصة، حيث قال إنها تشارك بالدعم العسكري والتدخل المباشر عن طريق سلاح الطيران بالقصف الجوي، وأنها تشارك منذ اليوم الأول للحرب، وقامت بقصف معسكر قواته في كرري بأمدرمان يوم 15 أبريل 2023، وقتلت آلاف الجنود الذين كانوا في طريقهم للمغادرة إلى اليمن والسعودية للانضمام لقواته التي تشارك ضمن التحالف السعودي هناك.
بدورها، سارعت وزارة الخارجية المصرية إلى نفي هذه الاتهامات عبر بيان أصدرته بعد خطاب حميدتي مباشرة، جاء فيه نصًا: (تنفي وزارة الخارجية المصرية المزاعم التي جاءت على لسان محمد حمدان دقلو قائد ميليشيا الدعم السريع بشأن اشتراك الطيران المصري في المعارك الدائرة بالسودان) !!
والملاحظ أن البيان المصري جاء بلغة هتافية متسرعة ومنحازة، حيث وصف قوات الدعم السريع بأنها “ميليشيا” وليست قوات عسكرية، كما لم يُشر البيان إلى قائدها برتبته العسكرية، مما كشف من حيث لا يريد ما يود نفيه، إذ فضح البيان كذب الموقف المصري المعلن، وعدم وقوف مصر على الحياد.
يبدو أن استخدام مصر لتلك اللغة الحادة والهابطة في بيان وزارة خارجيتها لم يكن فقط مجرد خطأ دبلوماسي، بل كشف عن تدخلها في الشأن السوداني بصورة أكبر وأكثر مما جاء به حميدتي، وعزز ما يتردد على نطاق واسع بأن بيانات (وزارة خارجية بورتسودان) نفسها تُكتب في القاهرة!
مصر سبق لها دعوة حميدتي بصفاته الرسمية مرتين، وقابله رئيسها “السيسي” في القاهرة بتلك الصفات؛ بصفته العسكرية كفريق أول وقائد لقوات الدعم السريع، وصفته السياسية كنائب لرئيس مجلس السيادة السوداني، فما الذي يجعله اليوم “محمدًا” دون رتبته العسكرية؟ وما الذي يجعل قواته اليوم مليشيا وليست قوات عسكرية نظامية؟ وأين سيذهب الناس بحديث السيسي – المبذول على الميديا لمن يريد – وهو يتحدث بعد لقائه بحميدتي في القاهرة ويصفه بسعادة الفريق أول وقائد قوات الدعم السريع ونائب رئيس مجلس السيادة؟ وقد قالت العرب قديمًا: “إذا كنت كذوبًا فكن ذكورًا”!
الموقف المصري المعلن يتناقض مع اللهجة الحادة في البيان الأخير، ويزيد الشكوك حول مصداقية مصر في لعب دور الوسيط والطرف المحايد في الحرب، بل يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك بأن مصر الرسمية تظهر خلاف ما تبطن وأنها فقط تناور بالحلول السلمية والسياسية في حين أنها مع الحل العسكري الحاسم، ولهذا السبب تتدخل في الحرب عسكريًا، وما بيانها إلا نتاج انفعال متسرع في لحظة تهور طائشة فضحت كل مخططاتها، ليس فقط ضد الدعم السريع بل ضد السودان والسودانيين، كشف طفولية وسذاجة بعض ساستنا وسط القوى المدنية الديمقراطية الذين لا يزالون – حتى اللحظة- يرون شحمًا في جسد مصر المتخم بالأورام الخبيثة!
هذه التطورات تأتي في وقت حساس، حيث تولت مصر قبل أسبوع الرئاسة (الدورية) لمجلس السلم والأمن الأفريقي، وهو المجلس المنوط به حل الأزمات والصراعات داخل القارة الأفريقية. وبالتالي، فإن انخراطها في الصراع السوداني بهذه الطريقة، وقتلها لأي مصداقية وحيادية بهذه الطريقة الفاضحة، ليس فقط يخرجها من أي عملية متعلقة بحل الأزمة في السودان مستقبلاً، بل أيضًا يوجه ضربة قاضية لمستقبل الحلول الأفريقية في هذه الحرب الدامية.
مآلات هذا التصعيد ستؤدي حتمًا إلى تفاقم الحرب والابتعاد عن أي أفق لحلول سلمية، فبعد فضح حميدتي للدور المصري الخطير واشتراكها المباشر في الحرب عبر القصف الجوي ودعم الجيش السوداني، والتصعيد اللفظي من الجانب المصري في بيان الخارجية، الذي أوصل مصر إلى آخر موطئ قدم من حافة الحرب، باتت الأجواء مهيأة لتحول خطير في سير الحرب لن يقف عند حدود السودان، بل من المرجح جدًا أن تمتد تداعياته على المستوى الإقليمي.