منعم سليمان✍
ظنّت جماعة الإخوان المسلمين، ممثلة في ذراعها السياسي “حزب المؤتمر الوطني” المحلول، بعد أن أوعزت لها أجنحتها العسكرية التي تدير لها الحرب، ممثلة في قيادة الجيش وكتائبها ومليشياتها الأخرى التي تُقاتل استنفاراً وفراراً، أن المعركة انتهت، وأن النصر تحقق، وأن العودة إلى السلطة أصبحت واقعاً على الأرض. ولكن كل ذلك لم يتحقق إلا في خيالهم المريض وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. سرعان ما رفعت الجماعة الإرهابية الفاسدة، مغتصبة السلطة والثروة وحزبها الفاسد المفسد، الغطاء عن نفسها، وبعثت بأحد كبرائها، وهو رئيسها المكلف الهارب إلى تركيا، إبراهيم محمود حامد، إلى بورتسودان ليعلن النصر المؤزّر حسب تصوره الأرعن وتصور حزبه المتسرع للعودة إلى السلطة مجدداً.
ولكن هذا دونه خرط القتاد، فشعلة سبتمبر الوضاءة الخفاقة ما تزال تخفق في قلوب السودانيين، وتنير لهم العتمة والظلمة سراجاً ومرشداً.
وصل إبراهيم محمود فاستقبلته حكومة الكيزان في عاصمتهم البديلة، التي يطلق عليها السودانيون تهكما “بورتكيزان” بدلاً من بورتسودان، وهيأ له عبد الفتاح البرهان الصالة الرئاسية بمطار بورتسودان. وتم الحشد لاستقباله، فبُعث إليه بالمتردية والنطيحة من كل صوب وحدب، وخطب في الناس خطبة “النصر” وانتهاء الحرب، رافعاً راية التحدي للشيطان الأكبر “الولايات المتحدة الأمريكية” وفقاً لوصفه وتصوراته.
من سمع كلمة إبراهيم لا يعجزه أن يلحظ أموراً كثيرة بالغة الأهمية فيما يتعلق بهذه الحرب، حتى لمن فاته ذلك فيما مضى. فقد تأكّد الآن، وبما لا يدع مجالاً للشك، أن هذه الحرب هي حرب الكيزان بامتياز؛ هم من خططوا لها وأطلقوا طلقتها الأولى، ومضوا فيها إلى لحظة “ذات الكباري” المُخادعة، مترافقة مع بعض التقدّم الطفيف في بعض الجبهات، والذي صُوِّرته آلة دعايتهم الإعلامية الحربية وكأنه انتصارات عظيمة في هذه الحرب، فيما لا تزال المعارك تدور في كل الجبهات، من كرري حيث الموقع الجديد لقيادة الجيش، مروراً بأسفل كبري النيل الأبيض (السلاح الطبي) وحتى سنار وتخوم النيل الأزرق، دعك من الفاشر بشمال دارفور وغيرها، وسيطرة قوات الدعم السريع حتى على عاصمة البلاد نفسها!
إشهار حزب الحركة الإسلامية الإرهابي أنه من أشعل الحرب ويديرها، وأن قيادة الجيش ما هي إلا خلية من الضباط تابعة له، يتضح جلياً من تهيئتهم لرئيس الحزب الصالة الرئاسية بمطار بورتسودان، وحشدهم لاستقباله وسط هتافات وشعارات كيزانية جهادية. وقرأ الرجل المتسرع الموتور (سِفر العودة) إلى الحكم، ورفع راية التحدي في وجه واشنطن وضرب مثلاً بأسوأ نموذج في هذا العالم، بحركة طالبان الأفغانية الإرهابية المتخلفة؛ التي لا تمتلك إلا (سراويلها) – وفقاً لتعبيره الساذج – وكيف انتصرت على 35 دولة بقيادة الولايات المتحدة!!
هذا هو النموذج الذي وعد به إبراهيم محمود حامد الشعب السوداني في المرحلة المقبلة، إن كانت هناك مرحلة سيكون للكيزان فيها دور، وهذه محض وهم كبير. فبينهم وبين العودة إلى الحكم مجدداً – الآن ولاحقاً- حروب ودماء وأشلاء وثورة وثوار وثورات. فليعلموا ذلك اليوم قبل الغد. فإن نجحوا في إشعال الحرب والتدثر بالجيش، فإنهم لن ينجحوا في ذلك في فترة ما بعد الحرب. لا أحد يريد هؤلاء الكيزان، وسيطاردهم الشعب السوداني مجدداً حتى يقضي عليهم قضاءً مبرماً. فلا عودة للفاسدين الإرهابيين الدمويين مجدداً.
في الجانب الآخر، ظهر كبير الكيزان في قيادة الجيش، الفريق شمس الدين كباشي، في جبل الدود، مُدّعياً أنه “جبل مويه”، رفقة القيادي في الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، ووالي سنار السابق الجهادي الحربي أحمد عباس.
ظهر الكباشي، وهو الكوز الفاسد، وهو يلفظ شعارات كيزانية واضحة ويلقي كلمته ككادرٍ خطابي إخواني مكتمل الهيئة والأوصاف؛ بنبرات صوته ونطقه وإيماءات وجهه، وهذه أشياء لا يُمكن تقليدها أو استعارتها في لحظة عابرة، وإنما هي مغروسة فيمن تربى في كنف هذا التنظيم الإرهابي الفاسد.
الكباشي ظهر في سياقه السياسي والفكري الطبيعي الذي نشأ فيه ككادر إسلامي كيزاني مُنظم، ومن يقول بغير ذلك فليراجع قدرته على التحليل السياسي وعلى الفهم والاستيعاب، أو فليتذكر مسرحية (المنامة) التي كان الهدف منها كسب الوقت لوصول الأسلحة الايرانية!
الآن، سمع من ليس لديه أذنان، ورأى من ليس لديه عينان، وفهِم من كان عقله خفيفاً، أن هذه الحرب هي حرب النظام البائد بامتياز، وأن البرهان وكباشي والعطا وجابر وكبار الضباط في قيادة الجيش ما هم إلا جزء من هذا النظام، وأنهم محض كوادر في الحزب المخلوع يأتمرون بأوامر علي عثمان، علي كرتي، أحمد هارون، إبراهيم محمود، وسناء حمد. (قلوبهم شتى وعلى دعاة التحول الديمقراطي أعوان)، وأن هذا الجيش الذي نراه الآن ليس جيش السودان، وإنما جيش البراء والمصباح، والناجي عبد الله، وصلاح قوش، وخلافهم من مخلفات العصر الجاهلي. بينما هؤلاء الضباط، وعلى رأسهم البرهان نفسه، مجرد دمى يحركها الكيزان أينما وكيفما وحيثما شاؤوا. وما الظهور الكريه للكريه أحمد عباس رفقة كباشي في جبل الدود إلاّ رسالة للجميع بأن هذه هي حربنا ونحن من كنا نديرها وما نزال.
وما إخلاء القاعة الرئاسية بمطار بورتسودان لرئيس حزب المؤتمر الوطني البائد إلا دلالة رمزية على أنه الرئيس الفعلي للسودان، وإن البرهان ورفاقه محض حُراس وخفراء له. ولا أظن أن هناك رسائل أبلغ من هاتين الرسالتين ولا أدلة أدمغ مما حدث في مطار بورتسودان وجبل الدود. فلا يحدثنا حالماً وساذج بعد الآن عن كوزنة كباشي من عدمها، ولا يحدّثنا أحد من البلابسة المغرر بهم عن حرب كرامة مُدعاة، وأن الجيش ليس مليشيا من مليشيات الحركة الإسلامية. لقد قُضي الأمر وانتهى الجدل، وستبدأ حرب أخرى؛ حرب تحول دون وصول هؤلاء الأوباش وشذاذ الآفاق من الإرهابيين إلى الحكم مجدداً.
هذا لن يحدث مرة أخرى. وسبتمبر ما تزال في قلوب الشعوب السودانية أيقونة للنضال والثورة من أجل استعادة المسار المدني الديمقراطي، وذلك ليس ببعيد.