منعم سليمان
من استمرأ إهانة الشعب السوداني وتمريغ كرامته بالأرض لأكثر من ثلاثين عامًا، لا غرابة في أن يهين و(يُمرمط) الأعراف الدبلوماسية وينتهك القوانين المعمول بها فيما يخص حماية وحصانة مقرات البعثات الدبلوماسية، وإلا أصبح العالم كله مكانًا غير آمن لأي بعثة دبلوماسية، إذ يمكن لمجرد أي خلاف قصف السفارات ومنازل السفراء وتدميرها وتسويتها بالأرض. وحكومة الأمر الواقع في بورتسودان على خلاف مع جميع دول العالم عدا (مصر)، وبالتالي، ماذا لو تم إرسال مسيّرات وإطلاق مقذوفات على مقرات سفاراتها في دول الجوار وغير الجوار؟
وعوضًا عن أن تعتذر الخارجية الكيزانية اللعينة بأسلوب دبلوماسي مقبول، كأن تصدر بيانًا يدين الحادثة ويستنكرها ويؤكد أنه في ظل الحرب والتوتر الناجم عنها بين البلدين، ربما تصرف بعض المتفلتين من عناصر الجيش وكتائب الإسلاميين ومليشياتهم بشكل فردي ونفذوا هذه العملية غير المرغوب فيها دون إرادة قيادة الجيش والسلطة السياسية، وأن ما حدث ليس توجهًا رسميًا لقيادة الجيش السوداني، وأنه سيتم التحقيق فيه وصولًا إلى الحقيقة وتقديم من نفذوا هذه العملية إلى المحاكمة، بدلاً من ذلك، أصدرت بيانًا أضحك العالم وجعلها محل سخريته وتندره، وهبط بالأمر من كونه خلافًا بين دولتين إلى مستوى خلاف في قضية (نفقة) بين زوجين مطلقين أمام محكمة الأسرة والطفل!
أراد بيان خارجية سلطة الأمر الواقع في بورتسودان إصلاح ما أفسدته تصرفات مليشياتها وكتائبها الإسلامية الإرهابية بقصف مقر إقامة السفير الإماراتي في الخرطوم بالطيران، وهو الأمر الذي ظنّت أنه سيمر مرور الكرام، فانتفضت دولة الإمارات وانتفض خلفها العالم من أعلاه إلى أدناه مندداً ومدينًا بهذا الانتهاك الكبير للأعراف والتقاليد والقوانين والاتفاقيات التي تحكم العلاقات بين الدول، فخرجت ببيان ركيك وهزيل، مطبقة عليها المثل القائل (جاء يكحلها عماها)، فأثبتت على نفسها الجريمة ثبوت شهر رمضان باكتمال العدول!
وكأن النزاع حول ملكية مقر السفير الإماراتي في الخرطوم وليس حول قصف المقر وتدميره، قال البيان الركيك لخارجية سلطة بورتسودان: إنّ منزل السفير الإماراتي في الخرطوم مملوك لمواطن سوداني، وكأن من يملك المنزل هو الذي يملك (العلم) والرمزية والسيادة، ولو أن ذلك كان كذلك، لوجدت غالبية سفارات دول العالم نفسها في الشوارع، وسياداتها مسلوبة لدى ملاك العقارات!
إن هكذا تبرير يعكس مدى التردي والترذل الذي ضرب كافة مناحي الحياة في بلادنا، فأتى بهؤلاء “العاهات” في صدارة المشهد العام مدافعين ومنافحين عن بلادنا، ومن شاهد النائب العام لسلطة بورتكيزان في حواره مع قناة الجزيرة الأسبوع الماضي، بمنظره الرث ونحافة فكره وفقر معرفته وهو يتأتئ ويتلعثم في النطق ويعجز عن التفوه بجملة مفيدة واحدة تتكون من فعل وفاعل ومفعول به، لا بد أنه قد عرف القاع السحيق الذي أوصلنا إليه البرهان، ولا بد أنه قد تفهم هذا التبرير الفطير الذي خرج من ذات الوادي المجدب.
نعود لبيان خارجية سلطة بورتسودان التبريري المضحك، الذي أخبرنا (مشكورًا) أن السفير الإماراتي لا يستخدم منزله حاليًا وانتقل إلى بورتسودان بسبب الحرب، وبالتالي فإن منزله لم يعد مقرًا دبلوماسيًا – ويا للهول، أين تعلم هؤلاء الأوباش العمل الدبلوماسي؟ وهل هم حقًا دبلوماسيون؟
على أي حال، وفقًا لهذا المنطق المعوج، فإنّ مكتب البرهان في القيادة العامة للجيش، الذي انتقل منه إلى بورتسودان هاربًا غير راغب بسبب الحرب، انتفت رمزيته وأصبح لا يمثل مكتب القائد العام للجيش السوداني لأن صاحبه قد فرّ منه إلى بورتسودان، وأنّ سفارة الولايات المتحدة الأمريكية التي تقع في منطقة سوبا بجنوب الخرطوم لم تعد سفارة للولايات المتحدة الأمريكية لأن الدبلوماسيين قد غادروها بسبب الحرب إلى بلادهم، وبالتالي يجب قصفها بالطيران ودكها على الأرض دكًا دكًا، وهكذا دواليك الخبل والهبل!
وبناءً على ذلك أيضًا، أصبح وصف سلطة الأمر الواقع في بورتسودان بالتافهة ليس إساءة بل وصفًا (على موصوف)، أي وصفًا واقعيًا ومنطقيًا، خصوصًا عندما تقرأ الجزئية المتعلقة بوصف المنزل، وهنا يبلغ بيان خارجية الكيزان ذروة الغباء، قال: “إن المبنى المشار إليه ليس مقرًا دبلوماسيًا، وإنما عقار مملوك لأحد المواطنين السودانيين، والذي تعرض للاعتداء من قبل قوات الدعم السريع”.
ما يهمني في هذه الجزئية، ليس نفي هذه الخارجية المعزولة أن يكون المنزل الذي تعرض للهجوم مقرًا لرئيس البعثة الدبلوماسية لدولة الإمارات الشقيقة، وليس حديثهم عن أن ملكية المنزل تعود إلى مواطن سوداني، وإنما الحديث عن أن هذا المواطن؛ أي مالك المنزل، تعرض للاعتداء من قبل قوات الدعم السريع، وكأن البيان يريد أن يقول: لقد قصفنا منزل هذا المواطن السوداني وهدمناه وسويناه بالأرض اقتصاصًا من الدعم السريع لأنها اعتدت على مالك المنزل من قبل (!) رجل تعرض للاعتداء بواسطة الدعم السريع، فيأتي البرهان ليحقق له العدالة ويقتص له من المعتدي، فيهدم منزله!! يحيا العدل – أي منطق هذا وأي مجانين هؤلاء؟
هل هناك حشف وسوء كيل أكثر من هذا؟ هل اطلعتم من قبل على بيانٍ لأي جهة حتى لو كانت منشأة صغيرة تابعة لمخبول يمارس تجارة العلف، بهذا الضعف وهذه الركاكة وهذا المنطق المعوج المضحك والمحزن في آن واحد؟
هذا البيان التافه المنحط، وجميع بيانات الخارجية (الكيزانية) لسلطة بورتسودان معروفة بالانحطاط، وكل من يطلع عليها لن يتوانى في وصفها بهذا المعنى، وقد سبق للناطق باسم مفوضية الاتحاد الأفريقي “محمد الحسن ولد لبات” أن وصف أحد بيانات ذات (الخارجية) بالمنحط، وقد أثبت الزمن أنه كان دقيقًا جدًا في وصفه.
على النقيض من ذلك، وجد بيان خارجية الإمارات الذي اتهم فيه جيش (الكيزان) بقصف مقر إقامة رئيس بعثتها الدبلوماسية، وكان بيانًا متوازنًا، منضبطًا، وملتزمًا بالمهنية والأعراف والتقاليد الدبلوماسية المتبعة في تحرير البيانات، ووجد تعاطفًا ودعمًا إقليميًا ودوليًا كبيرًا.
إننا نعيش عصر التفاهة والانحطاط، وكيف لا؟ والبرهان يكافح أن يكون (رئيسنا) والإخوان المتأسلمين يشعلون علينا الحرب كي يعودوا إلى الحكم مجددًا.
وأن يحكمك البرهان و”إخوانه” مرة أخرى فهذا وحده دليل على أنك وصلت نقطة الانحطاط التي لا عودة منها.