عندما صرخت البسوس بنت منقذ مستنجدةً بابن اختها جساس بن مرة اشتعلت حرباً ضروساً استمرت أربعين عاماً بين قبيلتين من قبائل العرب في جزيرتهم، كانت حرب داحس الغبراء، أو حرب البسوس صاحبة الناقة التي قتلها كليب بن تغلب أحد قادة القبيلة.
صرخة امرأة شقَّ القلوب، وفجَّرت الحروب، حقباً طوال، مات من مات وقتها أو بعدها بسبب الحرب أو بغيرها، لكنها ظلت جرحاً غائراً ذاكرة التاريخ، وصارت عنواناً للجهل عند قومٍ، وعنواناً للفراسة لدى قومٍ آخرين، وما بين العنوانين سالت دماء، وأهدرت كرامة، وسبيت نساء!.
وللحرب عناوين كثيرة؛ بسمون بعضها كبرياء، وبعضها حماقات، و لكل حربٍ أكثر من بسوس، و في كل حربٍ أحمق من جساس، وأكثر من حكايات وزوايا للنظر والعبرة والاعتبار.
بالطبع ليس كل النساء بسوس، ومثلما للحرب أكثر من راويةـ فكذلك للسلم أكثر من حكاية، وللنساء مواقف باذخة، فهنَّ الخصوبة والعطاء، وبهنَّ تتجمل السيرة و تحلو المسيرة، لأنهن هن أكثر من يدفع ثمن الحروب، فإن وقفت الجليلة بنت مرة مترددة ما بين نصرة زوجها الحبيب، وشقيقها المعتد، فقدت بنتها وابنها وقومها وورثت الفجيعة والهزيمة؛ فثمة نساء يقفن إلى جانب السلم.
في عام ٢٠١٤ عندما كانت حرب الأشقاء في جنوب السودان مشتعلةً دعت مجموعة من النساء كن ينشطن من أجل السلام إلى تنفيذ إضراب عبر الامتناع عن ممارسة الجنس مع أزواجهن لإرغام المتحاربين على وقف المعارك، وبينهم معسكرا الرئيس سلفاكير ميارديت، ونائبه رياك مشار، اللذان كانا يتقاتلان وقتها لمدة عشرة أشهر.
اجتمعت النساء في العاصمة جوبا. وبين المواضيع الرئيسية: “إقناع كل النساء في جنوب السودان بحجب الحقوق الزوجية عن أزواجهن إلى أن يعود السلام.
وفي السودان انتشر يوم أمس تسجيل فيديو يظهر فيه الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وبعضٌ من قادة جيشه، خلال زيارة لقرية قوز ود هندي، بمنقطة القرير بالولاية الشمالية، كان البرهان يتفقد ضحايا كوارث السيول والأمطار، إلا أن مجموعةً من النساء أكدن أنهن ضمير الشعب المنكوي بالحرب العبثية، قطعن الطريق وذهبن نحو الجنرال وفي حلقوهن غصة، وفي أعينهن دموع، وفي ذاكرتهن دماء وفجائع، طالبن البرهان بوقف الحرب، أعلن لا للحرب، أكدنَّ أن دعوة السلام ليست دعوة حزبية، أو دعوةً تنطلق من أجل تحقيق أجندة سياسية على حساب الناس والوطن؟
لقد فقدن كل شيء، وصرن هائمات في العراء، ليس لديهن غير كرامتهن وعزهن وشموخهن، لذلك هتفن رغم كيد المتربصين، وغالبيتهم من عناصر الإسلاميين، الذين يريدون إراقة كل الدماء، إلا دماء أسرهم، حيث استبقوا الحرب بترتيب أوضاع الأسر، وابعادها إلى تركيا ومصر بعيداً عن حمى النيران ودوي المدافع، هاجرت نساؤهم وتركوا النساء الفقيرات اللائي لا حيلة لهن، لا يملكن غير الضمير!
ومع ذلك لن يكف دعاة الحرب عن عزف ألحانهم المشروخة، وعن الرقص النشاز على إيقاع مارشات العسكر، سوف يستمرون في تلويث الفضاء العام، توزيع الثلاث ورقات، تجريم الجميع؛ لن يستثنون حتى نساء حادثة قوز ود هندي، نعم سيفعلون ذلك، وأياديهم تكون ممدودة لاستلام أموال ذهبٍ ملوث بالدماء ، بل أتخيلهم كيف يجلسون خلف شاشات كمبيوراتهم، أو يمسكون هواتفهم الغالية الثمن، يريقون حبر الحياء، يوزعون بطاقات الخيانة والعمالة لمن يشاؤون من غير حساب ، ثم يتمدد الفرد منهم/ن فوق لحافه الوثير، ويجذب بطانيته الدافئة كي يغطي جسده المقرور ببرودة التكييف، ينوم ضميره قبل أن تغمض العيون!
هل سمع البرهان، صيحات النساء المكلومات التائهات المشردات؟ هل أبصرت عيناه الأحزان في عيون النسوة الصادقات؟ أم يزوغ بصره، في غفلةٍ حتى يكشف الله عنه غطاءه ويكون بصره ذاك اليوم حديد؟ هل يرق القلب لآهات مكلومات؟ أم يلهيه عن ذلك تكبير المنافقين من الإسلاميين، ويغريه هتاف نائحات مستأجرات؛ يأتين إلى السواحل نزهة يصرخن خلالها برهةً في أذن البرهان بصرخة البسوس، ثم يعدن من حيث أتين من مدنٍ بعيدة تنوم وتصحى على مخدات الطرب؟!