د. ياسر يوسف ابراهيم _
تحدّد النظريات العسكرية القديمة والحديثة معايير ثابتة لتقييم سير المعارك الحربية، وترجيح كفة مساراتها ومحطاتها النهائية. ومع أنه يصعب التقرير بدقّة حول نتيجة أي حرب، إلا أن بعض مؤشرات البيئة المحيطة بالحرب تساعد في قراءة موازين القوة وشروط النصر.
يأمل الملايين من السودانيين في انتهاء الحرب الجارية حاليًا بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، التي اندلعت منذ ما يقارب عامًا ونصفًا في العاصمة الخرطوم، وفي أطراف واسعة من البلاد في دارفور، وولايتي الجزيرة وسنار الغنيتين بالموارد الزراعية.
ولكن مبعث القلق بالنسبة لهؤلاء هو طول أمد الحرب والمعاناة الإنسانية المتولدة عنها. كان الظن لدى كثيرين أنها حرب قصيرة بين الجيش وفصيل تمرّد عليه، قبل أن تتضح طبيعة المؤامرة، وحجم الاستهداف للبلاد والشعب، الذي ترتّب عليه احتلال المنازل، وتدمير مقوّمات الحياة المدنية، وتشريد الملايين، دون أدنى اعتبار للقانون الدولي الإنساني العرفي.
تنص المادة السابعة من القانون الدولي الإنساني العرفي على: “يميز أطراف النزاع في جميع الأوقات بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ولا يجوز أن توجه إلى الأعيان المدنية أي أعمال عسكرية”. كما تنص القاعدة 54 على أنه: “تحظر مهاجمة الأعيان والمواد التي لا غنى لبقاء السكان المدنيين أو تدميرها أو نقلها أو تعطيلها”.
وعلى الرغم من توقيع الطرفين على إعلان جدة في مايو/أيار 2023، الذي ينص صراحة على وجوب إخلاء الأعيان المدنية والخروج من منازل المواطنين، فإن قوات الدعم السريع، وبدعم من حلفائها المدنيين في تحالف “تقدم”، رفضت تنفيذ ذلك الإعلان.
في ظل ترقب السودانيين لحل ينهي معاناتهم ويعيدهم إلى منازلهم وأعمالهم، يطرح التساؤل الملحّ: ما هو التصور المتاح لإنهاء هذه الحرب؟
تجارب السودان المتعددة تفيد بأنه مهما طال أمد الحرب وتباعدت مواقف الأطراف، فإن الحل التفاوضي في النهاية هو الذي سيضع اللمسات الأخيرة للحرب ويوقف القتال. ولكن، ومن واقع ما يجري على الأرض من استقطاب عسكري وسياسي حاد، وتدخل إقليمي ودولي غير منتج، وتمدد قوات الدعم السريع في ولايات جديدة، فإنه من غير المتوقع أن تكون هناك أي مبادرة بإمكانها تقريب المواقف، إلا في حالة شعور أي من الطرفين بأن التطورات الميدانية لن تخدم أهدافه السياسيّة.
معايير صن تزو
في ظل قناعة كل من الطرفين بقدرته على كسب الحرب، نحاول تطبيق نظرية الفيلسوف والجنرال الصيني “صن تزو”، الذي ألف كتاب “فن الحرب” قبل أكثر من ألفَي عام فأصبح من وقتها مرجعًا مهمًا في شؤون الحرب.
حدد صن تزو سبعة أسئلة لتقييم أي حرب وتوقع نتائجها:
أي من حكام الطرفين أكثر تمسكًا بعناصر القانون الأخلاقي (الانسجام بين الحاكم والمحكومين)؟
أي من قادة الطرفين أكثر قدرة وتدبيرًا؟
لصالح أي من الطرفين تميل عناصر السماء والأرض (العوامل الجغرافية والمناخية)؟
أي من الطرفين يتبع النظام بحذافيره؟
أي الجيشين أقوى (معنويًا وبدنيًا وعتاديًا)؟
ضباط أي الجيشين أكثر تدريبًا واستعدادًا؟
أي الجيشين أكثر التزامًا بمبدأ الثواب والعقاب؟
من خلال نتائج هذه الأسئلة السبعة، أستطيع معرفة من سيصيب النصر ومن سيهزم”. بناءً على هذه الأسئلة، سنحاول الوقوف على حسابات الطرفين وتقييم مواقفهما.
موقف الجيش السوداني
يمتلك الجيش السوداني المشروعية الأخلاقية والسياسية في هذه الحرب باعتباره المعبّر عن الضمير الوطني والركيزة الأساسية للمحافظة على بقاء البلد موحدًا، ويمثل الحكومة الوطنية المعترف بها دوليًا والتي تمثل جماع أمر السودانيين. كما أن الجيش يتمتع بخبرة طويلة في إدارة المعارك، ويجيد اتباع التكتيكات المرهقة للعدو واستنزاف قدراته.
وعلى الرغم من أن النظريات العسكرية الحديثة تعطي الأفضلية في حرب المدن للجيوش غير النظامية، فإن الجيش استوعب الصدمة الأولى وطوَّر تكتيكًا واقعيًا للتعامل مع اندفاع قوات الدعم السريع المزهوة بأعدادها الهائلة في الشهور الأولى للحرب. وهذا ما بدا واضحًا في تكتيكات المحافظة على المواقع العسكرية واستدراج العدو نحو ما يمكن تسميته “بمعارك الأسوار” التي جرت حول القيادة العامة للجيش، وفي مبنى المدرعات، واستطاع الجيش صد مئات من الهجمات المتتالية، وكبّد المهاجمين خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد.
من الواضح أن الجيش اتبع إستراتيجية الجنرال الروماني فابيوس ماكسيموس (إستراتيجية فابيان) التي تقضي بتجنب الدخول في معارك ضارية أو اشتباكات مباشرة مع الصفوف الأمامية لجيش العدو، أو حتى الدخول معه في حرب حاسمة، وعوضًا عن ذلك تستمر في استنزافه ومراوغته على أطول مدى من أجل إضعافه.
من متابعة سير المعارك والأسلحة المستخدمة فيها، يظهر أن الجيش استطاع خلال المرحلة السابقة وبجهود خارقة إعادة بناء منظومة التسليح لديه بصورة فعالة داخليًا وخارجيًا، وهو الأمر الذي صرح به مساعد قائد الجيش الفريق ياسر العطا، بعدما تعرّضت لهزة كبيرة في المرحلة الأولى للحرب.
كما أنّ الجيش يقاتل تحت مظلة نفسيّة ومعنوية مريحة في ظل الالتفاف الشعبي الكبير حوله، وهو ما يسمّيه الفيلسوف الصيني “الانسجام بين الحاكم والمحكومين”. كاستثمار لذلك التعاطف الشعبي، أطلق الجيش حملة المقاومة الشعبية، فانخرط عشرات الآلاف من الشباب السوداني القادر على حمل السلاح في صفوفه، مما مكنه من معادلة القوة البشرية التي تتميز بها قوات الدعم السريع.
التحاق القوات المشتركة للحركات الموقعة على سلام جوبا بالحرب يُعد عاملَ دفعٍ إيجابيًا كبيرًا للجيش، إذ ساهمت مساهمة كبيرة في تعطيل تقدم قوات الدعم السريع في دارفور وعاصمتها الفاشر على وجه الخصوص، وفي تعطيل أي خطط لقيادة الدعم السريع باحتلال الفاشر وإعلان حكومة موازية من هناك.
نقاط ضعف الجيش
ورغم ما ذكر من مؤشرات إيجابية، هناك نقاط هامة ينبغي التوقف عندها:
الأولى، هي الوقت. يقول صن تزو: “لا توجد سابقة تاريخية تذكر أن بلدًا ما قد استفاد من دخوله حروبًا طويلة”، إذ كلما طالت الحرب ازدادت معاناة المواطنين الذين يعولون على الجيش في حسم المعركة بسرعة، كما أن ذلك سيمكن قوات الدعم السريع وداعميها من إيجاد مسارات للتسليح والدعم العسكري والسياسي.
ثانيًا، رغم تنوع الحاضنة السياسية التي تدعم الجيش، فإنه لا يمكن القول بوجود جهة سياسية متماسكة تشارك فعليًا في تخطيط وإدارة المعركة سياسيًا. لقد انعكس عدم تكوين حكومة مدعومة من حاضنة سياسية منذ قرارات الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 2022 على طبيعة العلاقة بين الجيش والقوى السياسية الداعمة له، التي كانت تنتظر فرصًا أكبر في مطبخ القرار السياسي.
ثالثًا، تأثرت العلاقات الخارجية للحكومة بالموقف الأميركي المتذبذب تجاه الجيش بعد قرارات أكتوبر/تشرين الأول. رغم أن الولايات المتحدة لم ترَ في تلك القرارات انقلابًا عسكريًا، فإنها اتخذت مواقف معادية للجيش، مما أثر تبعًا لذلك على علاقات الحكومة السودانية مع الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي وبعض الدول العربية.
حسابات قوات الدعم السريع
أولًا، تمكنت هذه القوات (الدعم السريع) من احتلال أجزاء واسعة من السودان، حيث تنتشر في أربع ولايات من أصل خمس في دارفور، وتحتل ولاية الجزيرة ذات الموقع الإستراتيجي المهم في قلب السودان بجانب ولاية سنار. رغم أن بعض العسكريين يرون أن هذا الانتشار غير منتج ومرهق عسكريًا، فإن قيادة الدعم السريع تراه ورقة ضغط مهمة في أي مفاوضات قادمة، أو حتى في تكوين حكومة موازية في الأراضي التي تسيطر عليها.
ثانيًا، تمتلك قوات الدعم السريع حاضنة قبلية في أكثر من دولة أفريقية لديها الاستعداد الفطري للقتال بشراسة في صفوفها، مما يمكنها من تعويض العنصر البشري مهما بلغت خسائرها فيه.
ثالثًا، اصطفاف تحالف “تقدم” المدعوم غربيًا معها يجعلها في وضع الساعي المحتمل لتجسير علاقاتها مع الدول الغربية، التي لا تزال ترى فيها قوات سيئة السمعة محملة بأثقال تاريخية من الجرائم في إقليم دارفور.
رابعًا، استمرار تلقيها للدعم العسكري اللامحدود وفقًا لما وثقته تقارير الأمم المتحدة والحكومة السودانية على السواء.