د. إسماعيل هجانة
في السودان، يلعب الجيش دورًا مركزيًا في تشكيل مسار الأحداث السياسية والاقتصادية، بل تحول الى تنظيم سياسي في احسن الاحوال يحمى مصالحه ومصالح المتحالفين معه في احسن الاحوال، ان لم واجهة وجناح عسكري لبعض القبائل في السودان. يعتبر الجيش السوداني، بما يتضمنه من تركيبة قيادية غير متوازنة، سببًا رئيسيًا في استمرار الحروب في الأقاليم المختلفة. فمنذ سنوات طويلة، يصر الجيش على استمرار النزاعات ويرفض بشدة كل دعوة لوقفها، مما يثير تساؤلات حول الأسباب والدوافع الحقيقية وراء هذا الإصرار وهذا التعنت. ثمة أسئلة ظلت تطرح نفسها على الدوام ولكن يخاف بل يتحاشى الكثيرين الخوض فيها بحجة أنها تخص الأمن القومي وفي الواقع هو لا أمن قومي ولا حاجة فقط انه الخوف من البطش والتنكيل، والخوف على المصالح وشح المعلومات. ومن هذه الاسئلة الملحة التي احاول مناقشتها هنا على سبيل المثال لا الحصر:
هل يمكننا اعتبار الجيش السوداني مليشيا منظمة تخدم مصالح فئات ومجموعات عرقية محددة؟ هل يتحكم الجيش، بالتعاون مع جهاز الأمن والمخابرات الوطني والشرطة السودانية، في مقاليد الدولة بشكل شبه مطلق، بما في ذلك السيطرة على الاقتصاد؟ وهل أثرت هذه السيطرة على التنمية المتوازنة في البلاد وكان سببا في الحروب السودانية واستمرارها؟ وللإجابة على هذه الأسئلة، يجب الغوص بعمق وتحليل واقع المؤسسة العسكرية السودانية، وتفكيك أعمدة السيطرة والنفوذ فيها.
من خلال تحليلي لما توفر لي من معلومات تشير البيانات فيها إلى أن الجيش ليس مجرد مؤسسة دفاعية وطنية كما ظلل الجميع يصدعنا بذلك! مما يطرح أسئلة كثيرة منها: هل هو جناح عسكري يهيمن على الدولة لصالح مجموعات عرقية معينة؟. وهل هذه السيطرة تتم عبر توزيع غير عادل للمناصب القيادية؟ هل تتركز السلطة في أيدي أفراد من مناطق وقبائل معينة؟، و كيف يعزز ذلك الانقسامات ويؤجج الصراعات؟. هل هذه الفئة التي تستفيد من الهيمنة على الجيش والمؤسسات الأمنية الأخرى تسعى إلى الحفاظ على وضعها المهيمن بأي ثمن، حتى لو كان ذلك يعني استمرار الحروب والنزاعات؟.
وفي هذا المقال، أحاول أن أقدم عرضًا وتحليلًا موضوعيًا مبنيًا على حقائق وآخر الإحصاءات التي تحصلت عليها، في محاولة للإجابة على الأسئلة أعلاه. من خلال تحليل هذه الديناميات والتفاصيل الدقيقة للتركيبة القيادية في الجيش السوداني، يمكننا فهم الأسباب العميقة لاستمرار النزاعات، وأهمية إعادة تأسيس الجيش على أسس جديدة تعبر عن جميع السودانيين وتحقق العدالة والمساواة، لضمان مستقبل أكثر إشراقًا وسلامًا للسودان.
تحليل لآخر قائمة قيادات الفرق الـ22 في الجيش السوداني
توزيع القيادات حسب الأقاليم:
الإقليم الشمالي (نهر النيل والشمالية): 20 قائد
الإقليم الأوسط (الجزيرة، سنار، النيل الأبيض، والخرطوم): 0 قائد
الإقليم الشرقي (البحر الأحمر، كسلا، القضارف، والنيل الأزرق): 0 قائد
الإقليم الغربي (شمال كردفان وولايات دارفور الخمس): 1 قائد
الإقليم الجنوبي (جنوب كردفان وغرب كردفان): 1 قائد
النقاط الرئيسية للتحليل:
الهيمنة الإقليمية:
الإقليم الشمالي يسيطر على الغالبية العظمى من قيادات الفرق، حيث يتواجد 20 قائدًا من هذا الإقليم. هذا يبرز تركيز النفوذ والسلطة في أيدي أفراد من الشمال، مما يعكس عدم التوازن في توزيع القيادة العسكرية.
الإقصاء الإقليمي:
الأقاليم الوسطى والشرقية والغربية ليس لديها أي تمثيل بين قيادات الفرق. هذا يشير إلى تهميش واضح لهذه الأقاليم، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى شعور بالظلم والإقصاء بين سكان هذه المناطق.
الأقاليم الجنوبية : يوجد ممثل واحد من النوبة فقط والنوبة وحدهم كشعب به ٩٩ قبيلة وجبل.
التنوع القبلي:
هناك تكرار واضح لبعض القبائل في قائمة القيادات، مثل الشايقية والجعليين. على سبيل المثال، من بين 22 قائدًا، هناك 14 شايقي و4 جعلي. هذا لا يشير إلى عدم التنوع فحسر في التعيينات القيادية بل الى احتكار مع سبق الإصرار والترصد
القبائل الأخرى مثل المسلاتي و النوباوي تظهر اثنين، مما يبرز عدم المساواة في الفرص للقبائل الأخرى التي تبلغ 500 قبيلة في السودان.
حينما نقول إن هذه المؤسسة فاسدة ولا تعبر عن جميع السودانيين، نحن نعني ما نقول. إننا نرى بوضوح أن هيمنة فئة معينة على مقاليد الحكم في السودان لا تعكس التعددية والعدالة التي يستحقها الشعب السوداني بكافة مكوناته. لذلك عندما نطالب بإعادة تأسيس هذه المؤسسة على أسس جديدة تعبر عن جميع السودانيين بمختلف قبائلهم و أقاليمهم لأننا نعرف مخاطر ذلك على الأمن القومي وسلامة المواطنين في السودان.
تأملوا معي في هذه القائمة أعلاه، أين هي العدالة والمساواة؟ إن السيطرة الحالية على الجيش، ومن ثم على مقاليد الحكم في السودان، لا تعبر عن إرادة السودانيين، بل هي هيمنة لفئة محددة. فإن من الضروري العمل إعادة بناء هذه المؤسسة لتكون ممثلة بحق لكل السودانين، معبرة عن تطلعاتهم في الامن والسلام وليس ان تكون هي الاخرى مدخلا دائما لمشاكل السودانيين، من خلال سعينا الدؤوب لتحقيق العدالة والمساواة للجميع علينا العمل بتجرد ونكران ذات في إعادة النظر في هذه المؤسسة لتكون داعمة وليست عائقا. فقط بهذه الطريقة يمكن أن نضمن مستقبلًا أكثر إشراقًا وعدلًا للسودان، حيث يتمتع الجميع بفرص متساوية ويتم القضاء على الفساد والمحسوبية، ونفتح الطريق نحو دولة المواطنة التي تتسم بالعدالة والمساواة والحرية والسلام.
مما سبق، نجد أن الجيش، وبكل وضوح، كان أحد أهم أسباب اندلاع واستمرار الحروب في السودان، إلى جانب أسباب أخرى لا تقل أهمية. من بين هذه الأسباب، يأتي دور الجيش السوداني بتركيبته غير المتوازنة لقياداته هذه، حيث يهيمن أفراد من قبائل ومناطق معينة على المناصب القيادية فيها. هذه الهيمنة تعزز الشعور بالظلم والإقصاء بين سكان الأقاليم الأخرى، مما يؤدي إلى تصاعد التوترات والنزاعات مما يقلل فرص التعايش السلمي والسلام.
أن تركز السلطة في أيدي فئة معينة يعزز الانقسامات ويؤجج الصراعات، لأنها تسعى للحفاظ على وضعها المهيمن بأي ثمن، حتى لو كان ذلك يعني استمرار الحروب. الفئة المستفيدة من هذه الهيمنة تسعى للحفاظ على مكاسبها والامتيازات التي تحصل عليها من خلال ضمان استمرار السيطرة على الجيش والمؤسسات الأمنية الأخرى.
الجيش السوداني والخلل البنيوي المتأصل في تركيبته القيادية يلعبان دورًا رئيسيًا في اندلاع واستمرار الحروب في السودان. تتجلى هذه العلاقة من خلال عدة عوامل رئيسية:
الهيمنة العرقية والإقليمية:
تركز السلطة في الجيش بأيدي أفراد من قبائل ومناطق محددة، مثل الشايقية والجعليين وفقا للاحصاء اعلاه من الإقليم الشمالي، من الطبيعي ان يعزز الشعور بالظلم والإقصاء بين الأقاليم والقبائل الأخرى. هذا التوزيع غير العادل للسلطة يفاقم التوترات الاجتماعية والسياسية، مما يؤدي إلى اندلاع الصراعات.
غياب التمثيل العادل:
الأقاليم الوسطى والشرقية تفتقر إلى أي تمثيل قيادي في الجيش، مما يزيد من شعور سكان هذه المناطق بالتهميش. هذا الشعور بالظلم لان الجيش هو الحاكم تاريخيا لاكثر من ٥٠ عام وهذا يمكن أن يدفع المجتمعات المحلية إلى التمرد والعصيان كوسيلة للتعبير عن مظالمهم.
تعزيز الفجوات الاجتماعية:
التركيز على بعض القبائل في المناصب القيادية يعزز الامتيازات المبنية على العلاقات التاريخية والقبلية، بدلاً من الكفاءة والخبرة. هذا يؤدي إلى خلق فجوات كبيرة بين مختلف مكونات المجتمع السوداني، ويعزز الانقسامات العرقية والإقليمية.
الاستفادة من النزاعات:
الفئة التي تهيمن على الجيش والمؤسسات الأمنية تسعى إلى الحفاظ على وضعها المهيمن والاستفادة من النزاعات المستمرة. استمرار الحروب يمكن أن يكون وسيلة لهذه الفئة للحفاظ على سلطتها ومصالحها الاقتصادية والسياسية.
فشل الجيش في تحقيق الأمن والاستقرار:
بتركيزه على حماية مصالح فئة معينة، يفشل الجيش في دوره الأساسي كحامي للأمن والاستقرار الوطني. بدلاً من ذلك، يصبح الجيش عاملًا مسببًا للصراعات ومؤججًا لها، مما يعوق الجهود الرامية لتحقيق السلام.
العلاقة بين الجيش والخلل البنيوي في الدولة السودانية، وفي تركيبة قيادته، هما من بين العوامل الحاسمة في اندلاع واستمرار الحروب في السودان. لتحقيق السلام والاستقرار في البلاد، يتطلب الأمر إعادة تاسيس الجيش ليكون مؤسسة وطنية قومية مهنية تعبر عن جميع السودانيين، وتحقق العدالة والمساواة بين جميع مكونات المجتمع السوداني. فقط من خلال هذا الإصلاح يمكننا أن نتجاوز تاريخنا المضطرب ونؤسس لمستقبل أكثر استقرارًا.
نواصل…..