سفير دولة أوروبية قال لي معلقاً على مؤتمر باريس للاستثمار في السودان ( تصور أن يكون أمام مستثمر البرازيل أو جنوب أفريقيا أو الهند فيختار السودان للاستثمار.. هل يمكن تصور مطلوبات وشروط تحقق هذا الأمر؟؟؟).
بعبارة أخرى، يقصد السفير ماهي المحفزات المطلوبة لتجعل جاذبية الاستثمار في السودان تفوق مثل هذه الدول المستقرة المتصدرة اقتصادياً؟..
الحقيقة الصورة تبدو مقلوبة تماماً، فالوضع في السودان الآن ليس في الاتجاه الموجب لجاذبية الاستثمار بل الطارد طرداً له.. فأول ما يبحث عنه رأس المال –الذي يُوصف بأنه جبان- هو الملاذ الآمن البعيد عن متناول الصُدف والتقلبات والمزاجات ، بعبارة أخرى؛ دولة القانون التي تسمح للمستثمر أن يحسب معايير المخاطر بمقاييس رقمية اقتصادية بحتة وليس بأية عوامل تتعلق بقرارات قد تصدرها الحكومة فجأة بلا مقدمات ولا اعتداد بالقانون..
وبهذه المقاييس فإن أول سؤال سيطفر في ذهن أي مستثمر أجنبي تراوده فكرة الاستثمار في السودان هو أين المحكمة الدستورية؟ أين المجلس التشريعي؟
والسؤال ليس مجرد تطفل على شؤوننا الداخلية، لكن لأن وجود مؤسسات العدالة والتشريع هو أول مؤشر على سلامة مؤسسات وسلوك دولة القانون، فإذا كانت الدولة السودانية حتى الآن وبعد حوالى عامين من انتصار الثورة بلا مجلس تشريعي وبلا محكمة دستورية وبلا مفوضية قضائية وأخرى نيابية فإن أول مطلوبات الاستثمار الآمن تسقط سقوطاً مدوياً ..
لكن الأمر لا يتوقف على مؤسسات العدالة والقانون بل حتى قانون الاستثمار نفسه لا يزال بين طيات السحاب، ورغم أن القانون السابق الموروث من النظام المخلوع لم يكن محتاجاً سوى لتعديلات طفيفة (كما قالت لي دكتور هبة محمد علي عندما كانت مسؤولة عن الاستثمار) إلا أن القانون الجديد لا يزال يحبو في ردهات السلطة في انتظار الوصول إلى مستشفى الدايات ليرى النور..
فضلاً عن مشوار طويل مع قوانين أخرى لصيقة ببيئة الاستثمار، قانون العمل ، قانون الأراضي على سبيل المثال لا الحصر..
رغم أن المدة المتبقية لمؤتمر باريس تبدو قصيرة إلا أن المشكلة ليست في الزمن بل في الحاجة الملحة لإصلاح الأوضاع عامة والاستثمار خاصة حتى يتمكن السودان من استنهاض موارده.. ويراودني شك كبير أن من فرط إدمان حكومتنا البحث عن العطايا والمنح والإحسان الدولي ما باتت قادرة على فرضية أن السودان بموارده وقدراته الذاتية يستطيع أن (يعبر وينتصر) وفي وقت قياسي..
قبل عام تقريباً كتبت هنا كثيراً أنبه للاهتمام بمؤتمر برلين للشراكة مع السودان، وظللت أطرق على الأمر حتى جاء المؤتمر ورأينا بأعيننا الروح التي دخلنا بها المؤتمر والتي عبر عنها فيلم أعدته الحكومة السودانية وقدمته في بداية المؤتمر يحكي عن الفقر الذي وصل مرحلة (واحد سوداني ما قادر يدفع حق الإيجار) كما ظهر في الفيلم.. كان واضحاً السودان يبحث عن (محسنين) لا (شركاء).. وعندما انتهى المؤتمر كتبت هنا بعنوان (مؤتمر الله يدينا ويديكم) فهاجت ثورة في الوسائط من الغاضبين على كشف الحقيقة.. وقالوا أن السودان أصلاً دخل بحثاً عن (الاعتراف الدولي) لا الشراكة.. أشبه بفريق كرة قدم يحصل على المرتبة “الطيش” في البطولة لكنه يرجع بـ”كأس الأخلاق الحميدة”..!