تتجاوز التحركات الدبلوماسية الأخيرة للفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة، فكرة المناورات السياسية التقليدية، لتصبح مؤشراً على محاولة إعادة تعريف موقع سلطة بورتسودان في معادلة إقليمية متغيرة، وسط أزمة داخلية تعصف بالبلاد.
زيارة البرهان إلى المملكة العربية السعودية جاءت في ظل ظروف بالغة التعقيد، مع استمرار حرب الحركة الاسلامية التي أنهكت البلاد ودفعتها إلى حافة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي. وتنظر العديد من الدوائر الإقليمية والدولية إلى الأزمة السودانية على أنها نتاج منظومة حكم عميقة الجذور، تتجاوز الصراع العسكري الظاهر إلى بنى ونفوذ متجذرة داخل مؤسسات الدولة.
هذا الواقع يدفع المراقبين إلى طرح سؤال “من يقرر فعلياً في السودان؟” بدلاً من السؤال التقليدي “من يحكم؟”، في إشارة إلى شبكات النفوذ التقليدية، خاصة تلك المرتبطة تاريخياً بالحركة الإسلامية، والتي يُعتقد أنها لا تزال تمتلك تأثيراً قوياً خلف الكواليس رغم إقصائها رسمياً من السلطة. هذا التداخل يجعل من الصعب تمييز القرار السيادي المستقل عن الضغوط الداخلية.
في هذا السياق، يمكن قراءة لقاءات البرهان الإقليمية كمحاولة لإقناع الشركاء بأنه قادر على قيادة عملية فصل حقيقية للدولة عن هذه الشبكات العميقة، وضمان سيطرة كاملة للسلطة الشرعية. ومع ذلك، يصطدم هذا الادعاء بتشكيك إقليمي متزايد يستند إلى تاريخ طويل من التعقيدات.
يبدو أن المزاج الإقليمي الحالي بات أكثر حزماً، حيث لم يعد الدعم أو الشراكة ممكناً دون ضمانات واضحة وتفكيك فعلي للبنى المولدة للأزمات. وهذا يجعل من زيارة البرهان محطة اختبار، ليس فقط لما تحققه من وعود فورية، ولكن للخطوات العملية والصعبة التي ستليها على الأرض.
الأمر لا يتعلق بلغة التطمينات العامة، فالشعب السوداني، الذي تحمل وطأة الأزمة لعقود، ينتظر إجابة عملية على سؤال مصيري: هل هناك إرادة سياسية حقيقية لكسر الحلقة المغلقة التي أعادت إنتاج الفشل، أم أن البلاد ستستمر كرهينة لتوازنات القوى القديمة؟
اللحظة الحالية لا تحتمل الحلول الوسطى؛ فالمسار إما أن يكون واضحاً نحو إعادة بناء الدولة على أسس جديدة تضمن الاستقرار والشراكة الإقليمية الفاعلة، أو أن تستمر حالة الانهيار. والرهان الأكبر يبقى على وعي شعب أدرك أن جذور أزمته تكمن في المنظومات وليس في الأشخاص فحسب.





