———————————————-
وكم ذا بمصر من المضحكاتِ
ولكنَّهُ ضحكٌ كالبُكاء
في كل الصراعات، كان للسلاح معنى يتجاوز كونه أداة قتال، لكنه في لحظات بعينها لم يكن محل خلاف بل اضطرار .
في السودان، لعب السلاح دورًا حاسمًا حين كادت مناطق الهامش أن تُنسى، أو تُبتلع في متاهات صراعات النفوذ عليها وبها. كان آنذاك لغة اضطرارية لفرض الوجود، وحدًّا أدنى للدفاع عن الحق في الحياة والاعتراف.
لكن ما نشهده اليوم لا ينتمي إلى هذا السياق، ولا إلى منطق الحرب بوصفها صراعًا بين قوتين. نحن أمام النمط ذاته الذي ظل الجيش الحكومي يستخدمه في مواجهة حركات المقاومة عبر أكثر من ثلاثة وأربعين عامًا من الحروب: سلاح يؤدي وظيفة مختلفة. سلاح يُستخدم لإنتاج رواية، لا لتحقيق هدف عسكري. لا يتجه إلى خطوط المواجهة، بل إلى المستشفيات، ورياض الأطفال، ومقار الأمم المتحدة، داخل مناطق تُعلن السلطة نفسها أنها تحت سيطرتها وتحميها.
من هنا يبدأ السؤال الحقيقي، لا عن مشروعية السلاح، بل عن وظيفته:
هل ما يجري قتال، أم إعداد متعمّد لمسرح جريمة تُراد له رواية مسبقة تُلصق بالآخرين؟
خلال الأسبوع الماضي، استُهدفت بعثة للأمم المتحدة و قتل عسكريين من بنقلادش داخل كادقلي، و قبلها استهداف روضة أطفال، ثم مستشفى في الدلنج. لا يجمع بين هذه الأهداف موقع عسكري، ولا قيمة تكتيكية، ولا اشتباك قائم. ما يجمعها هو أنها أهداف مدنية خالصة، منتقاة بعناية وأنها تقع داخل مناطق تُعلن السلطة الحاكمة أنها تحت سيطرتها الكاملة. هنا يسقط منطق “الخطأ العسكري”، ويبدأ منطق آخر أكثر انتظامًا.
هذا النمط لم يكن يومًا سلوكًا ثابتًا للجيش الشعبي لتحرير السودان/شمال منذ اندلاع الحرب. في ٢٠١١ م او قبله لم يُعرف عنه استهداف بعثات أممية، ولا منشآت طبية أو تعليمية داخل مناطق سيطرته بوصفها أدوات حرب أو وسائل ضغط إعلامي. في المقابل، ظل استهداف السفارات، ومقار الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية، والمستشفيات، جزءًا من سجل الجيش السوداني عبر تاريخ طويل من النزاع، من الجنوب القديم إلى دارفور، ومن جبال النوبة إلى النيل الأزرق.
وقصف يابوس ليس بعيدًا عن الذاكرة. ففي 20 ديسمبر 2024، تعرّض مقر تابع للأمم المتحدة في منطقة يابوس، بولاية النيل الأزرق، لقصف جوي مباشر أسفر عن مقتل ثلاثة من العاملين الأمميين. أعلن الأمين العام آنذاك عن لجان تحقيق، وتعهد بكشف الحقائق. لكن بعد عامٍ كامل، لم تُعلن أي نتائج. لم يُسمَّ الجناة، ولم تُحدَّد هوية الطائرات، ولم يُقدَّم تقرير للرأي العام. ذهبت الدماء إلى أدراج مكاتب الأمم المتحدة، وذهب الضحايا إلى صمت مؤسسي ثقيل.
هذا الصمت ليس تفصيلاً إداريًا، بل قرينة بحد ذاته. حين يُقصف مقر للأمم المتحدة نفسها، ويُقتل موظفوها، ثم لا تُعلن نتائج التحقيق، فإن الرسالة التي تُبعث إلى الفاعلين ليست رسالة ردع، بل رسالة سماح. هكذا يتحول القصف من جريمة استثنائية إلى نمط قابل للتكرار، ومن حادثة معزولة إلى سلوك مأمون العواقب.
ما يجري اليوم في كادقلي والدلنج لا يمكن فصله عن تلك السابقة. استهداف بعثات أممية ومنشآت مدنية داخل مناطق السيطرة، ثم تحميل المسؤولية للآخر، يجري في ظل معرفة مسبقة بأن لجان التحقيق قد تُعلن، لكن نتائجها قد لا ترى النور. هنا لا يُستخدم السلاح للسيطرة على الأرض، بل للسيطرة على الرواية.
الأخطر في هذا السلوك ليس عدد الضحايا فحسب، بل تحويل المدنيين إلى أدوات اتهام، وإلى مادة دعائية في حرب الروايات. حين تُقصف روضة أطفال أو مستشفى، لا يُراد القتل وحده، بل إنتاج صورة تُستثمر سياسيًا، بعد أن تكون الحقيقة قد دُفنت تحت الركام.
لهذا السبب، لم تعد المطالبة بتشكيل لجنة تقصّي حقائق دولية مستقلة ترفًا حقوقيًا أو ورقة ضغط سياسية. إنها شرط أساسي لحماية المدنيين، واختبار جدي لصدقية منظومة الحماية الدولية نفسها. فبدون تحقيق مستقل وشفاف، ستظل الجرائم تتكرر، وستظل الروايات تُفبرك،
وسيظل المدنيون يدفعون الثمن مرتين: مرة بالقصف، ومرة بالصمت.





