سعد منقلا/المحامي
ما يجري في جبال النوبة ليس “نزاعًا” بالمعنى السياسي أو العسكري التقليدي، بل مشروع منظّم وطويل الأمد يستهدف إبادة شعب جبال النوبة، وتفكيك وجوده التاريخي، وسحق أي أمل في البقاء والكرامة والعدالة. إن ما يتعرض له المدنيون اليوم يمثل جريمة مكتملة الأركان، تتقاطع فيها الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان مع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وتُرتكب على مرأى ومسمع العالم، ونجد ان الجيش السوداني كجهة مسلحة مرتبكة لتلك الانتهاكات ، أفلت طويلًا من أي مساءلة قانونية أو أخلاقية.
القتل كسياسة ممنهجة
تحوّلت المدن الكبرى في إقليم جنوب كردفان _جبال النوبة مثل كادوقلي، الدلنج، أبو جبيهة، إضافة إلى عشرات القرى والفرقان، إلى ميادين مفتوحة للعنف المسلح. تُقصف الأحياء السكنية قصفًا عشوائيًا ومباشرًا، وتُستهدف الأسواق ومناطق التجمعات المدنية، ويُطارد المدنيون داخل منازلهم، وتُزهق الأرواح خارج نطاق القانون، دون أي اعتبار لمبدأ التمييز أو التناسب المنصوص عليهما في القانون الدولي الإنساني.
لم يعد الموت نتيجة عرضية للحرب، بل أداة حكم وإدارة رعب، ورسالة قهر موجّهة إلى شعب النوبة بأكمله.
اغتصاب الكرامة قبل الأجساد
الانتهاكات الجسيمة في جبال النوبة، وعلى رأسها العنف الممنھج، والاستعباد ، ليست حوادث فردية أو سلوكًا معزولًا، بل سلاح حرب منظّم يُستخدم لكسر المجتمعات، وإذلال النساء، وتحطيم الروابط الأسرية والنسيج الاجتماعي.
إن الصمت على هذه الجرائم، أو تبريرها، أو التقليل من فظاعتها، يُعد شراكة مباشرة في الجريمة، وجريمة أخلاقية لا تقل بشاعة عن الفعل نفسه.
نهب الأرض وحرق المستقبل
تُنهب البيوت والمزارع، وتُحرق القرى، وتُدمَّر المستشفيات، والمراكز الصحية، والمدارس، ودور العبادة، في انتهاك صارخ لحق المدنيين في الحياة والتعليم والصحة. ويجري ذلك في إطار سياسة متعمدة للتجويع والإفقار، وقطع سبل العيش، وفرض واقع إنساني كارثي.
ملايين النازحين واللاجئين من جبال النوبة ليسوا “أضرارًا جانبية”، بل نتاج مباشر لسياسة التهجير القسري ، الهادفة إلى إفراغ الأرض وإعادة تشكيلها بالقوة.
التوصيف القانوني للانتهاكات
إن ما يجري في جبال النوبة يرقى، وفق المعايير الدولية، إلى:
جرائم حرب بموجب اتفاقيات جنيف
جرائم ضد الإنسانية تشمل القتل، والتهجير القسري، والعنف الجنسي، والاضطهاد على أساس الهوية
انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في الحياة، والأمن، والكرامة الإنسانية
وهي جرائم لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن تبريرها تحت أي ذريعة سياسية أو عسكرية، مع اعتبار الجيش السوداني المسؤول المباشر عن تنفيذ هذه الجرائم.
قانون مُدجَّن وعدالة مُختطفة
في جبال النوبة اليوم، لم يعد القانون حارسًا للحقوق، بل رهينة في يد السلاح. العدالة مُغيَّبة، والمؤسسات القضائية مُعطَّلة أو مُسيَّسة، وآليات الشكوى والحماية منعدمة. تُكافأ الجريمة بالصمت، أو بالإفلات من العقاب، أو بإعادة إنتاج الجناة في مواقع النفوذ.
إن الإفلات من العقاب هو الوقود الأساسي لاستمرار هذه الانتهاكات وتوسعها.
المجتمع الدولي: شريك بالصمت والتراخي
إن عجز المجتمع الدولي، وتردده، واكتفائه ببيانات القلق والإدانة الشكلية، جعله طرفًا غير مباشر في الجريمة. فحين تُترك الانتهاكات بلا تحقيق مستقل، وبلا مساءلة، وبلا حماية للمدنيين، يصبح الصمت تواطؤًا، ويغدو الحياد انحيازًا صريحًا للجلاد ضد الضحية.
مطالب عاجلة: التحقيق الدولي وحماية المدنيين
أمام جسامة الجرائم المرتكبة في جبال النوبة من قبل الجيش السوداني، وحلفائه واستمرار الانتهاكات دون أي مساءلة داخلية، فإن المسؤولية القانونية والأخلاقية تفرض اتخاذ إجراءات دولية عاجلة، تشمل:
1. فتح تحقيق دولي مستقل ومحايد تحت مظلة الأمم المتحدة، لتوثيق الانتهاكات، وجمع الأدلة، وتحديد المسؤولين عن جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية.
2. إحالة الجرائم إلى القضاء الدولي أو إنشاء آلية عدالة خاصة، لضمان مساءلة الجناة مهما طال الزمن.
3. توفير حماية فورية للمدنيين، تشمل مراقبة وقف الانتهاكات، حماية المدارس والمستشفيات والأسواق، وضمان وصول المساعدات الإنسانية.
4. حماية النساء والأطفال والفئات الأكثر هشاشة، وتقديم الدعم الطبي والنفسي والقانوني لهم، ومنع الإفلات من العقاب على الجرائم الجنسية.
5. فرض عقوبات دولية رادعة على المسؤولين عن الانتهاكات، بما في ذلك حظر السفر وتجميد الأصول والمساءلة القانونية الدولية.
6. دعم حق الضحايا في العدالة والإنصاف، بما يشمل التعويض وكشف الحقيقة كجزء من أي مسار حقيقي للسلام والعدالة.
أخيرًا
إن ما يحدث في جبال النوبة لن يُنسى، ولن يُمحى، ولن يسقط بالتقادم. دماء الضحايا دين في أعناق الجناة، والعدالة، مهما تأخرت، قادمة.
لا سلام بلا محاسبة، ولا دولة بلا كرامة، ولا مستقبل يُبنى فوق جماجم الأبرياء.
هذه ليست حربًا، بل جريمة مستمرة… في حق شعب جبال النوبة





