تشهد القارة الأفريقية منذ عام 2020 موجة غير مسبوقة من عدم الاستقرار العميق، بما في ذلك الانقلابات العسكرية والصراعات المسلحة التي اجتاحت عدداً من الدول المحورية، وتعكس هذه الأحداث أزمة بنيوية وهيكلية في أنماط الحكم، وفي الوقت ذاته تكشف عن تحولات محورية في المشهدين الجيوسياسي والأمني للقارة، إلى جانب تصاعد التنافس الدولي الذي يتخذ من الجغرافيا الأفريقية مسرحاً مفتوحاً له. ولم تعد هذه التطورات محصورة في إطار أزمات داخلية ناجمة عن ضعف الدولة أو إخفاق النخب الحاكمة، بل أصبحت جزءًا من معادلة جيوسياسية أوسع، يُعاد فيها رسم موازين القوى العالمية في ظل الصراع الدولي للتحول من القطبية الأحادية إلى عالم متعدد الأقطاب.
أدت هذه الديناميات إلى تحول عدد من دول إفريقيا، لا سيما في منطقة الساحل وغرب إفريقيا والقرن الإفريقي، إلى ساحات صراع معقدة تتداخل فيها النزاعات المحلية مع التنافس الدولي على النفوذ والموارد والممرات الاستراتيجية. وقد أسفر ذلك عن تداعيات خطيرة، أبرزها ترسيخ الحكم العسكري، وتآكل أطر التكامل الإقليمي، وتصاعد الأزمات الإنسانية، وتراجع فاعلية آليات منع النزاعات وحفظ السلام.
منذ أغسطس 2020، دخلت إفريقيا مرحلة غير مسبوقة من عدم الاستقرار السياسي، حيث اجتاحت الانقلابات العسكرية دولاً مثل مالي، غينيا، السودان، بوركينا فاسو، النيجر، والغابون، مع محاولات متفرقة للتدخل العسكري في دول أخرى. ولم تعد هذه التحولات غير الدستورية حكراً على دول الساحل المعتادة على الانقلابات والتغييرات غير الدستورية، بل امتدت لتطال دولاً جديدة، ما يكشف أن جذور الأزمة وأسباب عدم الاستقرار لم تعالج، بل تفاقمت مع تصاعد النزاعات المسلحة المستمرة.
بينما كان العالم يترقب عودة الاستقرار، استمرت “حمى الانقلابات” في الانتشار، وتوسعت رقعة الصراعات المسلحة إلى الحد الذي جعل إفريقيا تحتضن نحو 40% من النزاعات النشطة على مستوى العالم، وتواجه أكبر أزمة نزوح عالمي تقدر بحوالي 35 مليون نازح، ويتزامن ذلك مع تراجع الدعم الدولي، وانهيار عمليات حفظ السلام، وتداخل الأزمات الإقليمية مع الصراعات العالمية. في الوقت ذاته، تكشف هذه الديناميات هشاشة الأنظمة السياسية، وتسليط الضوء على تداعيات إنسانية كارثية، وتحولات جيوسياسية عميقة تجعل القارة جزءاً محورياً من الصراع العالمي، التي تسعى إلى إعادة رسم خريطة إفريقيا السياسية والأمنية.
تعد اللحظة الأكثر إثارة للقلق في نوفمبر 2025، حين شهدت غينيا بيساو انقلاباً عسكرياً مفاجئاً تزامن مع المراحل النهائية للانتخابات العامة، علامة على هشاشة الأنظمة السياسية في غرب أفريقيا. لم يكن التوقيت محض صدفة، بل يعكس نمطاً متكرراً حيث تتحرك المؤسسة العسكرية عندما تفشل النخب المدنية في إدارة العملية الديمقراطية بشفافية، أو تظهر شبهات حول نزاهة الانتخابات، مستغلة الطموحات الشخصية والمصالح المخفية، لتتحول إلى ما يمكن وصفه بـ”الملاذ الأخير” للحفاظ على مصالحها، رغم أن الغالبية العظمى من جيوش القارة تظل، من الناحية النظرية خاضعة للنظام القائم وتعمل لحمايته.
في المقابل، قدمت بنين، التي طالما اعتبرت نموذجاً للاستقرار النسبي، درساً مختلفاً في ديسمبر 2025، حين أُحبطت محاولة انقلابية بسرعة وفاعلية، نتيجة تضافر الجهود الداخلية والدعم الإقليمي الفوري. فقد تدخلت قوات من نيجيريا وكوت ديفوار لدعم الحكومة الشرعية، ما أعطى رسالة واضحة حول قدرة آليات الردع الإقليمية على مواجهة الانقلابات العسكرية.
يشير هذا التباين بين غينيا بيساو وبنين إلى حقيقة مهمة .. بينما لا تزال بعض الدول تراوح بين هشاشة مؤسساتها واندفاع الجيش نحو السلطة، هناك نماذج قادرة على استعادة الاستقرار إذا توفرت الإرادة الداخلية والتنسيق الإقليمي الفعال، ويبدو أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) بدأت في استعادة جزء من مصداقيتها المفقودة، لتؤكد أن استعادة ضبط النظام المدني في القارة الأفريقية، رغم الصعوبات، ما تزال ممكنة، إذا ما توفرت سياسات وقائية واضحة وآليات فعالة للردع والمساءلة.
في سياق متصل، واصلت الأنظمة العسكرية في أفريقيا ترسيخ قبضتها على السلطة، متجاوزة كل الالتزامات الانتقالية والدستورية. ففي تشاد، أعلن المجلس العسكري في مارس 2025 تمديد الفترة الانتقالية لخمس سنوات إضافية، في قرار أجهض أي أمل بعودة قريبة للحكم المدني، مؤكداً أن السلطة بيد الجيش وحده. أما في السودان، فقد واصل المكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي، الذي ينظر إليه على أنه امتداد مباشر للنظام العسكري السابق للرئيس المخلوع عمر البشير، تعزيز سيطرته بعد الانقلاب على الحكومة المدنية برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك، مستغلاً الانقسامات الداخلية بين القوى المدنية لتثبيت موقعه. وأسفر هذا الانقلاب عن تعقيد الأزمة السودانية، ليصل في النهاية إلى اندلاع حرب شاملة منذ 15 أبريل 2023، وما تزال مستمرة حتى اليوم.
هذا المسار يعكس نمطاً متكرراً في التجارب الأفريقية، لا سيما ان القادة العسكريون الذين يسيطرون على الحكم يجدون صعوبة بالغة في التخلي عنه، وغالباً ما يبررون استمرار قبضتهم على السلطة بمسوغات شكلية مثل “استكمال الإصلاحات الأمنية والسياسية”، بينما يستمر الواقع في تثبيت هيمنة المؤسسات العسكرية على القرار الوطني، ويؤجل أي أفق حقيقي للتحول الديمقراطي، وتكشف هذه الممارسات عن هشاشة المسارات الانتقالية، وتسلط الضوء على الحاجة الملحة لمقاربة إقليمية ودولية جادة لوقف الاستحواذ العسكري على السلطة وإعادة تأهيل المؤسسات المدنية الديمقراطية.
صراعات مستمرة .. أزمة إنسانية وجيوسياسية
إذا كانت الانقلابات تمثل أزمة سياسية، فإن الصراعات المسلحة تشكل كارثة إنسانية وجيوسياسية متفاقمة، وتعد التحدي الأكبر للاستقرار الإقليمي، وفي ظل هذه الديناميات، تشهد عدة دول أفريقية تدهوراً غير مسبوق في الأوضاع الإنسانية نتيجة الحروب والنزاعات المستمرة، وتبرز في هذا السياق حالات بارزة تستحق الوقوف عندها، منها:
السودان .. حرب وأزمة إنسانية كارثية
فمنذ 15 أبريل 2023، يغرق السودان في حرب مدمرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، وقد أدى اتساع رقعة النزاع إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، مع نزوح الملايين، وتدمير البنية التحتية، وارتكاب انتهاكات واسعة ضد المدنيين. هذا الصراع لا يهدد وحدة السودان فحسب، بل يزعزع استقرار منطقة القرن الأفريقي بأكملها، ويفرض تحديات جسيمة على الجهود الدولية الرامية لإيقاف الحرب وحماية المدنيين.
منطقة الساحل .. ساحة الإرهاب والتنافس الدولي
في منطقة الساحل، تواصل الجماعات الإرهابية تهديد الأمن، ما أبقى المنطقة في حالة توتر شبه دائم، وقد دفع هذا الوضع القوى الدولية إلى إعادة تقييم تموضعها، حيث أشارت تقارير إلى إعادة انتشار القوات الأمريكية في المنطقة، ليس فقط لمكافحة الإرهاب، بل أيضاً ضمن سياق التنافس على الثروات المعدنية والموارد الاستراتيجية، ويغذي هذا التنافس الجيوسياسي الصراع المحلي ويطيل أمده، إذ تتحول الأزمات إلى أوراق ضغط في لعبة القوى العظمى، بالتوازي مع تراجع جهود الإغاثة الدولية وانهيار عمليات حفظ السلام.
الكاميرون .. استقرار هش
رغم تصنيفها كدولة مستقرة نسبياً، شهدت الكاميرون اضطرابات واسعة في نوفمبر 2025 عقب إعادة انتخاب الرئيس بول بيا، ما كشف هشاشة الاستقرار السياسي في وسط أفريقيا، وتشير هذه الأحداث إلى أن فترات الحكم الطويلة، حتى وإن بدت مستقرة ظاهرياً، غالباً ما تخفي توترات عميقة، قابلة للانفجار في أي لحظة، مما يسلط الضوء على هشاشة المؤسسات وصعوبة احتواء الصراعات الداخلية قبل أن تتحول إلى أزمات شاملة.
الكونغو الديمقراطية .. صراعات متجددة رغم مساعي السلام
في شرق الكونغو الديمقراطية، تستمر أعمال العنف بين الجماعات المتمردة والقوات الحكومية، ما أدى إلى نزوح واسع ومآسي إنسانية متفاقمة للمدنيين، وعلى الرغم من هذه الظروف، شهدت البلاد مؤخراً مساعي دولية وإقليمية لاحتواء الأزمة، كان أبرزها توقيع اتفاقية سلام في الولايات المتحدة برعاية قطرية وأمريكية، وبحضور الرئيس الكنغولي والرئيس الرواندي وقادة المعارضة المسلحة وعدد من الوسطاء الإقليميين والدوليين. إلا أن الواقع على الأرض يظل معقداً، إذ تشير التقارير إلى استمرار المواجهات في مناطق عدة، وتفاقم موجات النزوح، ما يكشف هشاشة تنفيذ الاتفاقيات الدولية ويبرز محدودية قدرة الدولة على فرض الأمن وحماية المدنيين، وتتداخل هذه الصراعات مع مصالح اقتصادية واستراتيجية، حيث تسيطر الشبكات المسلحة على مناطق غنية بالمعادن، ما يعقد جهود السلام ويحول المنطقة إلى ساحة دائمة للتنافس الإقليمي والدولي على الموارد، ويؤكد هذا الواقع أن الأزمة الإنسانية في الكونغو ليست مجرد انعكاس لصراع محلي، بل جزء لا يتجزأ من المشهد الجيوسياسي الأفريقي الأوسع
الأسباب الجذرية والبيئة التمكينية
تتمثل الإشكالية الجوهرية للصراعات في أفريقيا في تداخل ثلاثة مستويات مترابطة:
العوامل الداخلية .. أزمة الحكم والدولة
تشكل الانقلابات انعكاساً مباشراً لما يعرف بـ”أزمة الدولة”. فانتشار الفساد والمحسوبية أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، ما ولد استياءً شعبياً واسعاً من النخب الحاكمة. كما أسهم التلاعب بالدساتير ومحاولات تمديد فترات الحكم في تقويض الديمقراطية وإغلاق مسارات التغيير السلمي، وفقدان الحكومات المدنية لشرعيتها، وإلى جانب ذلك، كشف الفشل الأمني في مواجهة التهديدات الإرهابية هشاشة الدولة وأضعف ثقة المواطنين، ما وفر مبرراً أساسياً لتدخل الجيش في السياسة.
العوامل الإقليمية .. هشاشة الأطر والمؤسسات
تلعب الأطر الإقليمية وضعف آليات التكامل ومنع النزاعات دوراً محورياً في استمرار الأزمات الأفريقية. فضعف قدرة الاتحاد الأفريقي والتكتلات الإقليمية على ضبط الانقلابات والتدخل المبكر يترك الدول عرضة للتمدد العسكري، بينما تؤدي النزاعات المحلية المتكررة إلى تآكل الثقة في المؤسسات الإقليمية وتقلل من فاعلية آليات حفظ السلام. كما يساهم التنافس الدولي والإقليمي على النفوذ والموارد في إطالة أمد النزاعات، إذ تتحول الأزمات المحلية إلى أدوات في لعبة القوى الكبرى، ما يعقد الحلول ويؤخر استقرار المنطقة. وقد خلقت موجة الانقلابات المتتابعة بيئة إقليمية مواتية لاستمرار هذا الاتجاه، حيث يقلل نجاح انقلاب في دولة مجاورة من المخاطر المرتبطة بمحاولات مماثلة، ما يشجع العسكريين على المجازفة. وفي الوقت نفسه، فشل العقوبات الإقليمية، في ردع الأنظمة العسكرية، عزز ثقافة الإفلات من العقاب، بينما ساهم تصاعد الإرهاب والنزاعات المسلحة، خصوصاً في الساحل والقرن الأفريقي، في تعقيد المشهد الإقليمي وجعل الدول عرضة لتأثيرات متبادلة تزيد من هشاشة استقرارها السياسي والأمني.
العوامل الدولية .. منافسة القوى الكبرى واستغلال الأزمات تتداخل الصراعات المحلية في أفريقيا مع مصالح القوى الدولية، إذ تنظر القارة كمسرح مفتوح للتنافس على الموارد الاستراتيجية والممرات الجغرافية الحيوية، وكثيراً ما تستغل الأنظمة العسكرية هذا التنافس لتعزيز قبضتها على السلطة، مستفيدة من دعم أو صمت القوى الكبرى، ما يطيل أمد النزاعات ويعقد فرص الحلول السلمية. إضافة إلى ذلك، يؤدي غياب مواءمة الدعم الدولي مع معايير حقوق الإنسان والحكم الديمقراطي، وتراجع الالتزام بعمليات حفظ السلام، إلى زيادة هشاشة القارة أمام الأزمات الإنسانية والجيوسياسية، ويسهم بشكل مباشر في انتشار ظاهرة الانقلابات العسكرية المتتابعة.
التحول الجيوسياسي والمشاعر المناهضة للخارج
شكلت المشاعر المناهضة للقوى الأجنبية، وخصوصاً فرنسا، بيئة ملائمة لدعم الانقلابات. فقد استغل تراجع النفوذ الفرنسي، وارتباط بعض الحكومات المدنية به، كذريعة لتبرير الانقلابات واعتبارها “تحريراً ثانياً”. كما دفعت هذه التحولات الأنظمة العسكرية الجديدة للبحث عن شركاء بديلين، على رأسهم روسيا، التي عززت نفوذها عبر تقديم دعم أمني غير مشروط بمبادئ الديمقراطية أو الحكم الرشيد. هذا التداخل بين الانقلابات المحلية والتنافس الدولي يطيل أمد الأزمات ويقلّص فرص الحلول المستدامة، ويحول الانقلابات من أحداث استثنائية إلى نمط متكرر، ما يضعف قدرة الأطر الإقليمية على الردع والحفاظ على الاستقرار.
التداعيات الجيوسياسية الإقليمية والدولية
أعادت موجة الانقلابات الأخيرة رسم الخريطة الجيوسياسية في غرب أفريقيا، خصوصاً مع بروز تحالف دول الساحل (AES) الذي يضم مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وتحوله لاحقاً إلى كونفدرالية، وفي خطوة مفاجئة، أعلنت دول التحالف انسحابها من إيكواس في يناير 2024، ما شكل ضربة قوية لمصداقية التكامل الإقليمي وهدد بتفكيك المنظومة الاقتصادية والأمنية لغرب أفريقيا.
وعلى الصعيد الدولي، تصاعد التنافس بين القوى الكبرى، حيث برزت روسيا كشريك أمني مفضل للأنظمة العسكرية، في حين اتخذ الغرب موقفاً حذراً يجمع بين الإدانة والحفاظ على قنوات الاتصال، ولم تعد أفريقيا مجرد ساحة هامشية، بل أصبحت انعكاساً مباشراً للصراع بين القوي العظمى، وقد استغلت الأنظمة العسكرية هذا التنافس الدولي لتعزيز استقلاليتها عن الغرب والبحث عن بدائل، مما منحها هامشاً واسعاً للمناورة وأطال أمد بقائها في السلطة، في سياق يذكر بملامح “حرب باردة جديدة”.
أفريقيا بين مفترق الخطر وإمكان الأمل
تقف القارة الأفريقية اليوم عند مفترق طرق. فمن جهة، يواصل فشل الدولة وأزمة الحكم فتح المجال أمام التدخل العسكري والانقلابات، ومن جهة أخرى، تظهر بوادر مقاومة إقليمية، كما في بنين، تعيد الأمل في إمكانية استعادة زمام المبادرة الوطنية. وبين من يعتبر الانقلابات تعبيراً عن “سيادة جديدة”، ومن يراها إعادة إنتاج لدورات الحكم العسكري التي تعيق التنمية، يبقى التحدي الأكبر متمثلاً في ضمان الأمن، والشرعية، والانتقال السياسي، وتعزيز التكامل الإقليمي. تكشف موجة الانقلابات والصراعات في أفريقيا عن ظاهرة متشابكة لا يمكن فصلها عن أبعاد الفشل الداخلي، وعن أزمة تتجاوز حدود الدول الوطنية لتتقاطع مع تحولات عميقة في بنية النظام الدولي، لا سيما ان الاستمرار في التعامل مع هذه الظاهرة بوصفها مجرد قضية أمنية أو نزاع داخلي سيؤدي إلى مزيد من التدهور، وما لم تعالج الأسباب الجذرية للفساد وسوء الحكم، وتحيد القارة عن صراعات القوى الكبرى، ستظل أفريقيا عرضة لأن تتحول إلى بؤرة صراع عالمي، مع ما يحمله ذلك من كلفة إنسانية وسياسية باهظة على شعوبها وعلى الاستقرار الدولي ككل.
الخلاصة: مستقبل أفريقيا بين التحدي والأمل
إن بناء مستقبلٍ أفضل لأفريقيا وشعوبها يقتضي الجمع بين تحقيق الاستقرار الأمني على المدى القصير، وإنجاز التحول الديمقراطي المستدام على المديين المتوسط والطويل، مع مراعاة التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي تشهدها القارة والعالم. ويتطلب ذلك تبنّي حزمة متكاملة من الإجراءات على عدة مستويات، من بينها:
أولاً: على مستوى الاتحاد الأفريقي والتكتلات الإقليمية
تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة بناء مصداقية آليات منع الانقلابات، وذلك من خلال تفعيل الدور الحقيقي لمجلس السلم والأمن الأفريقي، وربط آليات التدخل المبكر بمؤشرات واضحة لانهيار الحكم المدني. كما يتعين الانتقال من سياسة العقوبات العامة وغير الفعالة إلى عقوبات ذكية وموجهة تستهدف القيادات العسكرية والشبكات الاقتصادية التي تدعمها، دون إلحاق الضرر بالمجتمعات المحلية، وفي السياق ذاته، ينبغي ربط أي اعتراف أو تعامل مع الأنظمة العسكرية بجداول زمنية ملزمة للانتقال إلى الحكم المدني، تتضمن مراحل واضحة وآليات إشراف إقليمي فعالة. إضافة إلى ذلك يصبح من الضروري دعم مبادرات الوساطة الإقليمية والبعثات السياسية الوقائية، بدلاً من الاكتفاء بأدوات الردع المتأخرة التي غالباً ما تأتي بعد فوات الأوان.
ثانياً: على مستوى الحكومات الأفريقية
تقتضي مواجهة الأزمات البنيوية في القارة إطلاق إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية تعالج جذور السخط الشعبي، وفي مقدمتها الفساد المستشري، وارتفاع معدلات البطالة، وتدهور الخدمات الأساسية. كما يتطلب الأمر تحصين الدساتير ضد التلاعب السياسي، وضمان استقلال القضاء والمؤسسات الانتخابية بوصفها ركائز أساسية لأي مسار ديمقراطي. وفي الإطار ذاته تصبح إعادة هيكلة القطاعين العسكري والأمني أولوية قصوى، عبر برامج إصلاح أمني (SSR) شاملة تخضع لرقابة مدنية وبرلمانية فعالة، بما يضمن إخضاع السلاح للسلطة المدنية المنتخبة. وإلى جانب ذلك لا بد من فتح قنوات حوار وطني شامل مع القوى السياسية والمجتمعية المختلفة، بهدف تجديد العقد الاجتماعي على أسس أكثر عدالة وشمولاً واستدامة.
ثالثاً: على مستوى الشركاء الدوليين
يتطلب الدور الدولي الفاعل الانتقال من سياسات رد الفعل الآنية إلى مقاربات وقائية طويلة الأمد، تركز على بناء المؤسسات وتعزيز صمود الدول، بدلاً من الاكتفاء بإدارة الأزمات بعد انفجارها. كما يقتضي ذلك مواءمة أي دعم أمني أو عسكري مع معايير حقوق الإنسان والحكم الديمقراطي، وربطه بمؤشرات أداء واضحة وقابلة للقياس، تضمن عدم تحول هذا الدعم إلى أداة لإعادة إنتاج الاستبداد. وفي السياق ذاته تبرز أهمية زيادة التمويل الإنساني ودعم عمليات حفظ السلام ومنع انهيارها في مناطق النزاع الهشة، إلى جانب تنسيق المواقف الدولية وتوحيد الرسائل السياسية، بما يحد من قدرة الأنظمة العسكرية على استغلال التنافس بين القوى الكبرى لإطالة أمد الأزمات وتعقيد فرص الحل.
رابعاً: على مستوى المجتمع المدني والإعلام
يجب دعم منظمات المجتمع المدني والإعلام المستقل باعتبارهما أدوات أساسية للإنذار المبكر والمساءلة العامة. كما ينبغي حماية الفضاء المدني من القيود القانونية والأمنية التي تفرضها الأنظمة العسكرية، وتمكين الفاعلين المحليين، لا سيما النساء والشباب، للقيام بدور محوري في جهود بناء السلام وتعزيز الثقة المجتمعية، ويشمل ذلك تعزيز قدراتهم على المشاركة الفاعلة في صياغة السياسات واتخاذ القرارات، بما يضمن دمج المجتمع المدني كركيزة أساسية للاستقرار والتحول الديمقراطي.
محمد عبدالله إبراهيم





