إبراهيم برسي
[email protected]
ليس من السهل أن نفهم كيف يستطيع قائد جيش يخوض حربًا أهلية شاملة أن يجد وقتًا لاقتراحات مضحكة مبكية كهذه، لكن الفريق عبد الفتاح البرهان يفعلها دائمًا، ويربك المشهد، ويمنحنا مادةً جاهزة للسخرية… ففي تصريحاته الأخيرة، اقترح الرجل العودة إلى “علم السودان القديم” الذي رُفع يوم الاستقلال في ١ /يناير ١٩٥٦… وكان الرجل لا يزال حبيس الـ“بدروم” ولا يعرف أنّ الألوان نفسها أصبحت اليوم علمًا رسميًا لدولة الغابون ويرفرف منذ عقود في مباني الأمم المتحدة.
الاقتراح في حدّ ذاته فضيحة تكشف ضيق الأفق السياسي، وجهلًا بالتاريخ، وغيابًا فادحًا لمستشارين يعرفون أبجديات الدول ومعاني الأعلام.
علم السودان القديم، الذي صمّمته الفنانة السودانية السريرة مكي في لحظة الاستقلال، كان بسيطًا: ثلاثة أشرطة أفقية بألوان “الأزرق” في الأعلى، “الأصفر” في الوسط، و“الأخضر” في الأسفل… ثلاثية رمزية ترمز إلى “النيل” و“الصحراء” و“الزرع”. وقد ظل العلم مستخدمًا رسميًا حتى انقلاب جعفر نميري في ٢٥ /مايو ١٩٦٩، حين استُبدل بالعلم الحالي المتأثر بالموجة العروبية آنذاك.
ما الذي حدث بعد ذلك؟
حدث ما يجعل اقتراح البرهان اليوم نكتةً سياسية مكتملة الأركان: فالعلم الغابوني مكوّن أيضًا من ثلاثة أشرطة أفقية، وبالألوان نفسها التي يتغنّى بها البرهان… وقد أصبح منذ “٩ /أغسطس ١٩٦٠” رمزًا وطنيًا لدولة أخرى ذات سيادة.
هذا يعني — ببساطة — أننا لو استجبنا لاقتراح البرهان وعدنا للعلم القديم، فسنُعيد رفع “علم الغابون” على مؤسسات السودان الرسمية، وسنمنح العالم مشهدًا لا يحدث إلا في الكوميديا السياسية: دولةٌ تتبنّى علم دولةٍ أخرى، ثم ترفع شعار “استعادة السيادة”.
أيّ سيادة؟ وأيّ ذاكرة؟ وأيّ عقلٍ سياسي يمرّ بهذا المشهد ولا يتوقف عنده؟
الطريف أن هذا الجدل ليس جديدًا؛ ففي ثمانينيات القرن الماضي، حين تزايدت الدعوات لإعادة علم الاستقلال بعد انتفاضة ١٩٨٥، اصطدمت اللجان التنفيذية في الخرطوم بما عُرف حينها بـ“المعضلة الغابونية”: التطابق اللوني الذي يجعل العلمين متشابهين إلى حدّ الالتباس. يومها، تراجعت الدولة احترامًا لفكرة الرموز الوطنية… أمّا اليوم، فحتى هذا الحدّ الأدنى من الوعي لا يبدو متاحًا.
والأغرب أنّ البرهان لم يكتفِ بالمقترح، بل قدّمه بوصفه خطوة من خطوات “إعادة صياغة الدولة” و“تجديد مشروع الاستقلال”… وهذه مفارقة تكاد تُغني عن أي تعليق. كيف تُعاد صياغة الدولة بعلمٍ ليس للدولة؟ كيف يُستعاد الاستقلال براية دولةٍ أخرى؟ وكيف لا يهمس مستشارٌ واحد في أذنه: “سيادة الفريق… هذا العلم أصبح علم الغابون منذ ستينيات القرن الماضي”؟
إن أخطر ما في الأمر ليس الجهل بالحقائق، بل الطمأنينة إلى الجهل.
فأنْ تقود بلدًا مثخنًا بالحرب ولا تدري أنّ علم ١٩٥٦ صار رمزًا لدولة أخرى، فهذا لا يعني نقصًا في المعلومات بقدر ما يعني انهيارًا في القدرة على اتخاذ القرار… انهيارًا في الوعي، وفي الأولويات، وفي الحدّ الأدنى من مسؤولية الحكم. إذ بينما يناقش العالم وقف الحرب والمجاعة وحماية المدنيين، ينشغل قائد الجيش بتغيير علم السودان… بعلم دولة أخرى.
لقد أطلق البرهان جملة أراد بها أن تبدو وطنية، فإذا بها أمام العالم “زلة معرفة”… زلة تكشف أن سلطة لا تعرف أن تُدقِّق في ثلاثة ألوان، لن تُدقِّق في اتفاقيات السلام، ولا في الملفات الإقليمية، ولا في مستقبل الدولة.
من أضاع العلم، أضاع ما هو أكبر.
والمؤلم أن الدعوة جاءت في أكثر لحظات السودان هشاشةً وتشتتًا… لحظة يحتاج فيها البلد إلى دولةٍ تتقصّى وتستشير وتفكّر، لا دولةٍ ترفع يدها في الهواء وتلتقط أول رمزٍ يمرّ من الذاكرة المنهكة، دون أن تدري أن هذا الرمز نفسه أصبح عنوانًا لدولة أخرى منذ العام ١٩٦٠.
هذا هو المأزق الحقيقي:
حين لا تعرف القيادة الفرق بين “ذاكرة الاستقلال”… و“علم دولة أخرى”.
وحين تكفي ثلاثة ألوان لفضح حجم الفراغ في أعلى هرم السلطة.
فالخطر ليس في العلم… بل في العقلية المتكلّسة التي تدير شؤون البلاد والعباد.





