كاربينو يكتب: من كاربينو إلى البرهان قراءة سودانية في خفايا الأزمة واستدعاء الحقيقة المغيبة

لقد عاش السودان على امتداد عقود طويلة في حلقة متكررة من النزاعات، منذ لحظة الاستقلال وحتى اليوم، حيث لم تتوقف الحرب عن زعزعة بنيانه الاجتماعي والسياسي، المواطن السوداني ظل عبر كل هذه السنوات، شاهداً على لعبة القوى المتصارعة، يتلقى آثارها دون أن يملك قرار مستقبله، ومن زاوية هذه التجربة يصبح واضحاً أن الأزمة الراهنة ليست صراعاً سطحياً بين الجيش وقوات الدعم السريع، كما يحاول بعض المقال تصويرها بل هي انعكاس لتراكمات عميقة داخل النسيج السياسي والعسكري للسودان وتعبير صارخ للإختلال البنيوي والرؤيوي ، وانعكاس لهيمنة نخبة معينة على مفاصل القوة، وصناعة واقع حاكم يبرر سيطرته على مؤسسات الدولة.
إن المقال الذي أصدره البرهان يحاول رسم صورة أحادية الجيش الوطني هو الحامي والمرجع، وقوات الدعم السريع تمثل “تمرداً” و”خيانة”. لكن الحقيقة التاريخية والسياسية أوسع وأعمق من ذلك، ظلت الحركة الإسلامية بمختلف تشكيلاتها هي التي هيمنت على الجيش ونفذت إنقلابها في العام 1989م، وأجرت تحالفات استراتيجية محددة لخدمة مصالحها الخاصة، بينما دفع المواطن العادي الثمن الأكبر ، الصراع الحالي لم يندلع من فراغ بل هو استمرار لمسار طويل من احتواء السلطة العسكرية لمصالح نخبوية ضيقة، وتحويل القوة إلى أداة سياسية، على حساب سيادة الدولة وحماية المواطنين.
من الأهمية بمكان أن نتحدث عن قوات الدعم السريع بوضوح ودقة هذه القوات هي قوة رسمية تأسست وفق إطار قانوني، وقيادتها كانت جزءً من أعلى مستويات السلطة فقد شغل قائدها منصب نائب رئيس مجلس السيادة، ووقع نيابة عن حكومة السودان على اتفاق سلام جوبا، ناهيك عن دور القوات في الهجرة الغير شرعية، ناهيك عن الخطوات التاريخية نحو إنهاء النزاع في دارفور وكردفان والنيل الازرق وتحقيق خيارات الشعب السوداني في العام 2019م، هذه القوات لم تكتفي بذلك، بل شاركت بفاعلية في تحالف عاصفة الحزم بقيادة المملكة العربية السعودية، وهو التزام دولي يتطلب تنظيم وهيكلة عالية، ويؤكد شرعيتها وإطار عملها القانوني والمهني، هذه الحقائق وحدها تكشف التناقض الواضح بين ما يصفه البرهان وبين الواقع الملموس على الأرض، وتفضح الأكاذيب حول ما يُسمى “تمرداً” أو “خيانة”.
إن قراءة الأزمة السودانية لا يمكن أن تقتصر على النظر إلى الجانب العسكري أو اعتبارها مجرد مواجهة بين جناحين، يجب أن يُنظر إليها من زاوية أوسع تشمل السياق التاريخي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي ، والفهم العميق للدور الذي لعبته النخبة على مر السنين في توجيه مؤسسات الدولة نحو مصالحها الخاصة، بعيداً عن إرادة الشعب، الرد على مقال البرهان لا يكتفي بالنفي أو الادعاء، بل يتطلب عرض السياق الكامل الذي أنتج هذه الأزمة، بما في ذلك التحكم الحزبي والجغرافي والسيطرة التاريخية على الجيش، واستغلاله لأغراض سياسية ضيقة بينما تُستبعد مطالب الشعب وحقوقه الأساسية.
إن السودان اليوم على مفترق طرق ويحتاج إلى صراحة في مواجهة الذات وإلى مراجعة حقيقية لمسار النخبة التي أنتجت هذه الصراعات المتكررة، ويجب أن يكون التركيز على إعادة بناء وتأسيس العلاقة بين الجيش والمجتمع، بحيث يتحول الجيش إلى مؤسسة تحمي المواطنين والدولة، لا أداة لخدمة مصالح محددة، ومن هنا تتجلى أهمية قوات الدعم السريع كقوة منظمة، قانونية، وملتزمة بسلام جوبا وخيارات الشعب وحقه في التغيير، في مقابل الخطابات التي تعيد إنتاج صورة مغلوطة للواقع، وتختزل الأزمة في مشهد أحادي ينسى دور هذه القوات الإيجابي والمحفز للاستقرار والعملية السياسية.
من كاربينو إلى البرهان يجب أن يكون السؤال المركزي هو كيف يمكن للدولة أن تتحرر من هيمنة القوى الضيقة، وتعيد لمواطنيها الحق في اختيار مصيرهم؟ وكيف يمكن أن يكون السلام حقيقياً ومستداماً إذا لم تُستعد المؤسسات لحماية حقوق الشعب وضمان سيادة القانون؟ الإجابة على هذا السؤال وحده يمكن أن تجعل من الحرب الحالية درسا للتغيير الحقيقي، لا مجرد حلقة جديدة في مسلسل الانكسارات المتكررة التي عرفها السودان.
في النهاية السودان بحاجة إلى خطاب صريح، يعترف بالتاريخ ويواجه الحقائق، بعيداً عن الصور النمطية والتعميمات المضللة، الرد على البرهان يجب أن يكون قراءة دقيقة وموضوعية تبرز حقيقة قوات الدعم السريع، وتعيد تعريف دورها الوطني والإقليمي، وتضع نصب العين مصلحة الشعب السوداني، بعيداً عن أي تمويه أو محاولة تصفية حسابات نخبوية، السلام في هذه اللحظة لن يُبنى على الاوهام بل على الحقائق والاعتراف بالجهود التي تصنع الاستقرار وتحقق خيارات الشعب وأن تكون القيادة قادرة ومتحررة وشجاعة لإتخاذ القرار دون وصاية من أحد كما فعلها القائد حميدتي رئيس المجلس الرئاسي.