إرهاق السلطة في بورتسودان يطفو مع كل همسة، غير أن تسريب استقالة كامل إدريس بدا كأنه اللحظة التي انهار فيها الجدار الواقي، وتقدّم المستور ليجلس في قلب الضوء. مشهد يوحي بأن الرجل الذي استُقدم من سويسرا محمولاً على وعود المدنية لم يكن سوى “خيال مآتة” نُصِب فوق أرضٍ أكلتها الحرب، فيما تتحكم في مفاصلها “مكاتب ظلّ” تعرف كل شيء… إلا معنى الدولة نفسه.
منذ وصوله، بدا إدريس كأنه يمشي في ممرّ ضيّق بين رغبات لا يريدها وقرارات لا يملكها، وسط ضجيج سلطات تتصارع تحت السطح. أُلصق به لقب “مهندس العبور المدني”، لكنه اكتشف سريعاً أن العبور مجرد سردية للتجمّل أمام الخارج، وأن المطلوب منه أن يبقى قناعاً لا رئيساً، وصمتاً لا رأياً. ولمّا تعذّر عليه أداء هذا الدور، وُصِف بأنه “هزلي أكثر مما يجب”، وتحول من واجهة مرغوبة إلى عبء على من جاءوا به.
وراء هذا الاضطراب، تتبدّى صورة السلطة الممزقة بين واجهة مدنية تُلمّع المشهد ومراكز قوة تمسك بأوردة الدولة. مصادر متعددة تحدثت عن ضغوط مارسها قادة الحركة الإسلامية لدفع إدريس إلى التنحي، بعدما اعتُبر أنه لم يعد صالحاً لأداء دور الواجهة. وبينما اختفى عن المشهد لأكثر من أسبوعين، لمعت رواية رسمية تزعم أنه في جنيف للعلاج، وأنه “يتابع الأحداث على مدار الساعة”.
ثم جاء نص الاستقالة المسرّبة ليقلب ستار الخشبة ويكشف حقيقة ما يجري. خطاب يُكتب عادة في غرف مغلقة، خرج هذه المرة كصرخة يائسة: يفيض بالإنهاك، ويعدّد أسباب عجزه عن إدارة حكومة تتحول يوماً بعد يوم إلى ملحق أمني وعسكري.
تحدّث عن غياب السيطرة على مؤسسات الدولة المالية والإدارية، وافتقار مكتبه لأي معلومات دقيقة حول الإيرادات ومسار صادرات الذهب، وأن الحسابات تجري في الظل لأطراف تعمل فوق السلطة، لا داخلها. شهادة تهزّ فكرة الدولة من جذورها.
أما حديثه عن تدخل عناصر المؤتمر الوطني المُنحل في توجيه القرارات، فكان تأكيداً أن الثورة المضادة لم تكتف بالعودة، بل استردّت مفاتيح الغرف المغلقة كلها. باتت تحدّد الأولويات، وتتحكّم في الإنفاق، بينما يقف “رئيس الوزراء”، أعلى منصب مدني، خارج دائرة الفعل.
الأرقام التي وردت تزيد المشهد ثقلاً: أكثر من 95 % من الإنفاق العام موجّه للعمليات العسكرية، فيما تختفي ميزانية التنمية؛ كأن البلاد بلا مدارس ولا مستشفيات.
ثم يأتي التحويل الغامض لمئتي مليون دولار “دون علم رئاسة الوزراء” لينكشف كطعنة جعلت الاستمرار، كما قال، قريباً من خيانة مبادئ العدالة والشفافية.
المشهد أبعد من استقالة. يشبه إعلان وفاة رسمية لهياكل دولة تنهش الحرب ما تبقّى منها، ويبتلعها الفساد حتى العظم، وتتحول فيها الواجهات المدنية إلى ديكور يختبئ خلفه حكم فعلي يتغذّى على الغموض والولاءات.
استقالة إدريس لا تقول إنه عجز، بل تكشف عن انهيار الوهم، ووقوف سلطة بورتسودان أمام حقيقتها العارية: دولة تُدار كأنها شركة خاصة، تنهشها أصابع خفية وتدفعها من انهيار إلى آخر، بينما يسقط “خيالات المآتة” واحداً تلو الآخر… دون أن يتغيّر المشهد الذي يبتلعهم جميعاً.





