خرج السيد الحاج آدم القيادي في المؤتمر الوطني في قناة الجزيرة وقال دون تردد إنهم ضد الهدنة الإنسانية ومع استمرار الحرب وإنهم لا يكترثون لقرارات القوات المسلحة بقبول خارطة طريق الرباعية، وقبله صرح الدموي أحمد هارون لرويترز قائلا إنهم سيحاربون إلى حين استعادة سلطتهم و هزيمة ما صنعوه بأيديهم (الدعم السريع). ومن الواضح أن المؤتمر الوطني بأجنحته المتصارعة حول المال والسلطة يتفقون في حقيقتين: أولا، إنهم من يقرر في أمر إيقاف الحرب، وثانيا، أنهم سوف لن يتوقفوا عن فعل أي شيء للوصول إلى مبتغاهم حتى وإن انهارت الدولة بالكامل ومات جل السودانيين وتحولت الدولة إلى إقطاعيات عسكرية تسيطر عليها المليشيات التي بلغ عددها ما يزيد عن المئة حسب آخر محاولات الحصر.
برغم أني أتفهم أن الحرب قسمت الناس و ارجعت جلّهم الى انتماءاتهم الأولوية من قبيلة و اثنية و جغرافية و مصالح مباشرة و تصورات عن من المتسبب في أذاهم، إلا أن جل أصحاب المواقف المعلنة من الحرب يحاولون جاهدين إظهار سردياتهم عن الحرب علي أنها تقوم وفق مبادئ أخلاقية أكثر صحة من خلال ادعاء اتخاذ الموقف الوطني الصحيح ومن يخالفهم الرأي هم الضلال والخونة و العملاء، و في حقيقة الأمر هذه المواقف لا تصمد أمام حجج المنطق السليم بما فيها من تناقض لكنها في حقيقتها مدفوعة ربما لا شعوريا بعوامل الانقسام الاثني والجغرافي والطبقي، ويحاول أصحابها في إظهارها على أنها تبدو أنها أكثر تجاوزا وتقدما وهذا جزء من التعقيد الذي يشوب خطابات الحرب بما فيها من تعقيد وتداخل بين الداخل والخارج.
الأمر المحير أن الإسلاميين يصرون على أن تكون سردية الحرب عن ما يسمونه الغزو الأجنبي واتهام دولة بعينها بهذا الغزو ويريدون سردية الحرب أن تكون عن أن القوى المدنية هي سبب الحرب وهي نفس القوى التي سعت بكافة السبل أن تمنع وقوع الحرب منذ مبادرة الدكتور عبد الله حمدوك وما تلاه من مبادرات عدة مرورا بالاتفاق الإطاري وبتكوين الجبهة المدنية خلال أيام بعد قيام الحرب في 15 أبريل 2023 و من ثم تشكيل تحالف تقدم ومن ثم صمود، وهي ذات القوى التي تقف الآن و تقول أنه لا يوجد حل عسكري وتسعى صباح مساء لإيقاف الحرب لأنها ترى أن الحرب خطر ماحق في ذاتها. بما توفر من حيثيات، ليس هناك شك في أن المؤتمر الوطني وتحالف المال والسلطة الذي يدور في فلكه هو المستفيد من إشعال الحرب لتقسيم القوى الاجتماعية والسياسية التي أشعلت ثورة ديسمبر، ورغم كل المزايدات بانتهاكات الدعم السريع من قبل الإسلاميين، مصنع الانتهاكات بالأصالة، أعلم اليوم أن المؤتمر الوطني و حركته الإسلامية يسعون بكافة السبل إلى صيغة تدخلهم في حوار مباشر مع الإمارات وأن نجحوا سيطرحون تسوية تجعل الدعم السريع شريك أصغر وتخرج قوى الثورة من المعادلة السياسية (و لا اقصد معادلة السلطة حتى لا يأتي أصحاب الغرض لتفسير ما هو مفسر) لتعيد إنتاج نظام المؤتمر الوطني بثوب جديد عبر إعادة هندسة التحالف الحاكم اجتماعيا وسياسيا، وللأسف تظل هذه فرضية واردة في ظل حالة الإرهاق الذهني التي بدأت تصيب المجتمع الدولي وفي ظل تفاقم الأزمة الإنسانية والإحساس العام أن الشعب السوداني اصبح رهينة لإرادة المؤتمر الوطني، الخطر يكمن في أن هذه الفرضية بعيدة عن ما وصلت إليه الأمور علي الأرض وبها استسهال مبالغ فيه لسياق اضحي بالغ التعقيد في ظل الانقسام الاجتماعي و السياسي. صدق أو لا تصدق هذا هو سدرة منتهى أحلام الإسلاميين بعد كل ما حاق بالسودان كوطن و كدولة وما حل بأهله من تشرد و نزوح وقتل و اغتصاب وذلة و هوان وضياع لمستقبل أجيال بالملايين.
ورغم هذا لا أفهم كيف يمكن أن تقوم قيامة الوسائط لو أن أي من المتحدثين من القوي المدنية تقوّل بما يسمح لغرف دعاة الحرب بالتأويل لنفخ كير الدعاية و الكذب كما فعلوا في تحريف قول الأستاذ بابكر فيصل عن “الاطاري أو الحرب” وجعلوها تعني نقيض ما قٌصد بها حيث كان مقصده أن الإطاري هو المخرج من الحرب بين جيوش متعددة ليس لها قيادة موحدة وبينها تنافس حول السلطة و الموارد، وفعلوا معي عشرات المرات ومع خالد عمر من يومين ومع جعفر حسن ومع محمد الفكي ومع دكتور حمدوك نفسه، وحين نصمت لا يتورعون من تأليف الأكاذيب باسمنا، وها هو الحاج آدم يقول ما يشاء حول رفض الهدنة و العمل على استمرار الحرب بل و تحديه للقيادات العسكرية، وقد سبقه من قبل رئيس المؤتمر الوطني أحمد هارون وأيضا رئيس التيار الإسلامي العريض علي كرتي، ولا نرى حملة ولا ضجيج من المحسوبين في مربع قوى الثورة سابقا الرافضين للحرب. ردة الفعل تجاه أقوال الحاج آدم في تحدٍّ لكل العالم بما فيها الرباعية يمثل كما يقول الفرنجة A case in a point إذ يتعين علينا محاصرة دعاة الحرب والعمل على تنصيف المؤتمر الوطني منظمة إرهابية لأنها كانت ومازالت إرهابية منذ عام 1989 ولأنها هي المصنع الذي أنتج وينتج كل هذه المليشيات إلى يوم الناس هذا.
وكما ذكرت في مقالي القبل الأخير أنني شاركت في مؤتمر الوساطة للسلام الذي نظمه الاتحاد الأوروبي في عاصمته بروكسل يومي 27 و28 أكتوبر، وكان جل الحضور يعملون في مناطق نزاعات وفي الوساطة حيث التقيت برجل لطيف صومالي كيني ويعمل في الأمم المتحدة في اليمن وبعد أن تجاذبنا أطراف الحديث عن أحوال اليمن وقال لي حاليا لا يوجد وقف إطلاق نار متفق عليه ولكن توجد حالة لا هي بالحرب ولا هي بالسلم فقاطعته قائلا إن هذه الحالة ربما تسمى Cease Fire By Exhaustion أي وقف إطلاق النار بالإرهاق. أتمني أن لا يأتي اليوم الذي نفقد فيه القدرة علي التفكير المنطقي وأن لا ننجرف إلى التخندق الأعمى في المواقف من الحرب و أن لا يأتي يوم تقف فيه الحرب نتيجة لإرهاق المتقاتلين، فحينها ربما لا تكون أطراف الحرب هي أطراف اليوم ولا سرديات الحرب هي التي تسيطر على النفوس والقلوب اليوم، وللذين يعرفون الحروب الطويلة يعرفون أنها تتغير بنيويا وتغير كل شيء فيها وحولها.
خلاصة القول إنه أمامنا فرصة الآن لمحاصرة دعاة الحرب بكافة الوسائل، و لشحذ الهمم لإيقاف نزيف الدم بالضغط لوقف إطلاق نار شامل لنهيئ الظروف للقلوب لتشفي وللعقول لتعمل لتفتح أفق نحو المستقبل للأطفال والشباب وأن نحتفي بالحياة بدلا من تمجيد الموت والخراب.





